فلسطين أون لاين

هكذا تفاعلن.. مواقف نسوية من زمن حظر التجوال

...
صورة أرشيفية
غزة/ هدى الدلو:

مع بداية شروق الشمس وقبل أن تشق طريقها إلى كبد السماء، كان عزيزة سالم ترافق والدتها في الذهاب إلى المزارع الموجودة في مدينة دير البلح، ليس فقط لشراء الخضار والفواكه التي تحتاج إليها العائلة، بل أيضًا لشراء كميات منها من أجل التجوال فيها في أزقة المخيم وبيعها للعائلات، إذ أحكم جيش الاحتلال الحظر في شوارع قطاع غزة.

حينها لم يكن عمر سالم يتجاوز 18 عامًا، وكانت تسكن في منطقة حكر الجامع جنوب شرقي المدينة الواقع وسط قطاع غزة. كانت تسير مع والدتها مسافة ثلاثة كيلومترات لتصل إلى المزرعة، ومن ثم تتوجهان إلى البيوت في المخيمات، والمنازل الحدودية لبيع الخضار ولتؤمن من الربح البسيط الذي تحققه احتياجات عائلتها المكونة من 23 فردًا.

تقول سالم (50 عامًا) لصحيفة "فلسطين": "كانت العائلات في دير البلح تتسوق من سوق يوم الثلاثاء، ولكن بفعل حظر التجوال أغلق السوق، فكانت السيدات في المنطقة يتسللن ويخترقن الحظر من أجل تلبية احتياجات عائلاتهن وأبنائهن الصغار، فكنا ندق أبواب بيوت التجار الذين يضعون الخضار بداخلها ونشتري منهم".

وما توضحه سالم أن الاحتلال لم يكن يشدد في حظر تجواله على النساء والأطفال بقدر حرمان الشباب والرجال منه حيث كان يستهدفهم القرار أولًا وأخيرًا، لكنه يسمح لهن بالتجوال في منطقتهن دون الخروج إلى الشوارع الرئيسة.

وتشير إلى تمسك مخيمات اللاجئين حينها بالعديد من العادات، إذ كان الرجال يرفضون خروج نسائهن لتلبية احتياجات عائلاتهم، حتى لو استمر الحظر لأسابيع.

نضال نسائي متعدد الأوجه

وتستذكر أن النساء كن يتشاركن مع الشباب عملهم في مسح الشعارات الثورية على جدران الشوارع حيث كان جيش الاحتلال وبعنجهية الاحتلال المعهودة يقتحم البيوت ويخرج الشباب من داخلها عنوة من أجل مسح الشعارات التي تدعو لتثوير الشارع خلال ساعات معدودة وإلا وقعوا في الأسر، فتخرج السيدات معهم لمساعدتهم بعد أن يخلطن الطحين بالماء، أو رماد النيران لإخفاء الكتابة.

تضيف سالم: "بعد أن ننتهي نعود كسيدات وكأننا محققات انتصارًا في عدم تمكن الاحتلال من اعتقال أي أحد من شباب الحي، وندق على الجرادل التي كنا نستخدمها ونغني".

وفي حال تجرأ جنود الاحتلال بالاعتداء على أحد الشباب ومحاولة اعتقاله، كانت نساء الحي تهاجم الجنود حتى يخلصنه من قبضتهم، "فكنا بمجرد سماعنا دقات باب الجيران من الجنود تهرع كل سيدة من بيتها لتكون بجانب جارتها"، تصمت لثوانٍ قليلة ثم تكمل: "فعلًا كانت أيام النضال الحقيقي، والتكافل الاجتماعي رغم صعوبة الوضع".

وقد كانت السيدات تساعد الرجال على جمع الحجارة وتكسيرها لإلقائها على الجنود وجيباتهم العسكرية، وعلى آلة الخياطة اليدوية تحيك الأعلام الفلسطينية، مشيرة إلى أن المرأة من قبل انتفاضة الحجارة وهي لها دور سياسي ونضالي فعال بكل مستوياته.

وعند مدخل دير البلح كانت النساء وبمجرد سماع أصوات الجيبات الإسرائيلية تقتحم الشوارع وتفتح أبواب منازلها على مصراعيها لإيواء الشباب والرجال الفارين من قبضتهم فيدخلون أي بيت تصل إليه أقدامهم أولًا، ومن هذه البيوت يقفزون من بيت لآخر، على حين كانت النساء يعُقن تقدم الجنود لملاحقة الشباب.

مواقف من الذاكرة

أما رنا محمد (45 عامًا) التي كانت في وقت الانتفاضة الأولى لم تتجاوز ثمانية أعوام، وكانت مقيمة مع عائلتها في الكويت، وجاءت إلى غزة لزيارة أقاربها، فتستذكر موقفًا ما زال في ذاكرتها عندما بدأ الأطفال في التصفير منذرين بوصول جيبات اليهود لتطبق قرار حظر التجوال، بدأ الأطفال في الهرب، على حين تسمر شقيقها الذي برفقتهم في مكانه غير آبه بالذي يحصل، وعندما اقترب منه الجيب العسكري خلع حذاءه ووضعه في حضنه.

تكمل حديثها: "اعتقدنا حينها أن جيش الاحتلال اعتقله، على حين كانت إحدى الجارات قد انتشلته وأعادته لنا ويكاد قلبه يخرج من مكانه من شد الخوف الذي دب فيه".

وقبل أن تخرج باسمة ملاخة من عتبة باب بيتهم الصغير لتشتري لوالدتها العلاج الذي وصفه لها الطبيب بعد خروجها من المستشفى، أوصتها بأن تحوط نفسها بآية الكرسي ليحفظها الله ويعمي عنها عيون الاحتلال وجنوده.

تحمل في يديها روشتة العلاج، وما إن مر على خروجها من البيت خمس دقائق، حتى وجدت نفسها محاطة بجنود الاحتلال يصوبون بنادقهم تجاهها.

تقول: سألني الجنود عن سبب خرقي لحظر التجوال، فأجبتهم: "أنا مريضة كنت بالمستشفى وبدي أجيب علاج، فسألوني عن اسمي، فقلت لهم سهام، كما هو مدون بالروشتة، فتركوني وشأني".

وعند عودتها غيرت مسارها لكيلا تصادفهم، إلا أنها قابلت دورية أكبر من الأولى، وبعد أسئلة عدة تركوها تعود إلى بيتها.

أما باسمة التي تبلغ حاليًّا (60 عامًا) فكانت أكبر أشقائها، وعرفت بجرأتها، لا تهاب أحدًا والمهم ألا تمس شعرة من إخوتها الذكور، ومع ذلك كان والدها يمنعها من الخروج خوفًا عليها، سوى في أوقات المنع وحظر التجوال ولحاجة ماسة.

وتستحضر موقفًا ارتجاليًّا يوم فرض حظر التجوال وشقيقها يجلس في بيت جيرانهم، "يومها أخرجت رأسي من الشباك فوجدت الجنود يملؤون الشارع، فأشرت لأخي بألا يعود حتى لا يقع في قبضتهم، فلم يفهم إشاراتي، وما إن خرج من البيت حتى أحاط به الجنود من كل جانب، حينها حملت بنت شقيقي الآخر وخلعت حذاءها وخرجت من البيت متحججة بأنها كانت ضائعة ويبحثون عنها".

تقول ملاخة: "كنت عندما أخرج من البيت أصطحب معي في كل مرة واحدًا من أبناء أشقائي الصغار لأتحجج بهم في حال فرض حظر التجوال فجأة ولإفلات الشباب من قبضتهم".

وتروي أنه وفي إحدى المرات اندلعت مواجهات بين الشبان وجيش الاحتلال، وأصيب شقيقها بحجر كبير قذفه جيش الاحتلال عبر آلة يستخدمها لهذا الغرض، وما إن دخل البيت حتى أغمي عليه، وفي الوقت ذاته فرض جيش الاحتلال حظر تجوال، "خرجت مشيًا لإحضار الإسعاف لنقله لعدم القدرة في التعامل معه، وتحججت بأن لدينا حالة ولادة".

وقد أسقط الدور الملموس والفاعل الحساسية التقليدية لدور المرأة وضوابطه في الانتفاضة، وأدى أيضًا لذوبان الفوارق الشكلية بين المرأة والرجل في الفعل الجماهيري، إذ حجزت المرأة الفلسطينية لنفسها مكانًا متقدمًا لا يزال أثره قائمًا حتى يومنا هذا، وبأشكال نضالية متنوعة.