لم تمر سوى أسابيع قليلة على حادثة الدفاع المستميت لأفراد من أجهزة السلطة عن حافلة تضم جنودًا إسرائيليين من لواء غولاني -المشهور بارتكابه جرائم بحق الفلسطينيين- كانت قد ضلت الطريق في الخليل، فلم يبرحوا مكانهم حتى أمّنوا خروجها من منطقة وادي الهرية، ليس ذلك فحسب، بل اشتبكوا مع أبناء جلدتهم دفاعًا عن الجنود الصهاينة، ورافقوا الحافلة حتى خرجت إلى مسارها، حتى فاجأتنا تلك الأجهزة المسماة "فلسطينية" زورا وبهتانا بعمل (بطولي) آخر فضحته الكاميرات.
فقد أظهرت مشاهد الكاميرات أن أفرادًا من الأجهزة الأمنية وقفوا سدًا منيعًا لحماية مستوطنَين دخلا منطقة المنارة في رام الله بالخطأ، وأعادوهما إلى أقرب حاجز إسرائيلي، بعد أن أحرق الشبان الثائرون مركبتهما التي تحسّر عليها أفراد الأمن قبل أن يتحسّر عليها المستوطنان. حادثة تضمنت مشهدَيْن هما أساس الصراع الوجودي بين الحق والباطل على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
المشهد الأول هو الذي يتبناه كل مكونات شعبنا الفلسطيني المتمثل في العمل البطولي الذي أظهره الشباب الثائرون بإحراق مركبة المستوطنين وسط رام الله؛ ليؤكد من جديد أن كل محاولات كي وعي شعبنا وخلق حالة تعايش بينه وبين الاحتلال ستبوء بالفشل، وهو مثال حيّ على الروح الحقيقية للجيل الفلسطيني الحالي، كما أنه تعبير بالفعل لا بالقول عن رفض الأمر الواقع بإجبارهم على التعايش مع الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه.
أما المشهد الثاني الذي يتبناه أزلام التنسيق الأمني وأجهزة الخزي والعار وقيادتهم في الضفة المحتلة المتمثل في حماية المستوطنين الإسرائيليين من الثوار الفلسطينيين، هذا المشهد وأمثاله يعد صمام أمان للسلطة الفلسطينية من الانهيار، وهو جزء أساسي من وظيفة الأجهزة الأمنية التي كُشفت سوأتها أمام الملأ بأنها ووكيل أمني للاحتلال الإسرائيلي.
هذه الحادثة تذكرنا بمشهد قتل الجنديين الإسرائيليين اللذين تسللا إلى رام الله عام 2000، وسُحلا في الشارع نفسه الذي أَحرق فيه شبان فلسطينيون مركبة المستوطنين، قبل أن يحميهما الأمن الفلسطيني في مركز شرطة البيرة، غير أن حشدًا من الفلسطينيين الغاضبين الذين كانوا في جنازة أحد شهداء الانتفاضة، هاجموا المركز، وتمكنوا من الانقضاض على المركز، وتغلبوا على عناصر الشرطة، وقتلوا الجنديين، وأفادت وسائل إعلام عبرية آنذاك بأن قرابة 13 عنصرا من أجهزة السلطة أصيبوا في أثناء محاولتهم إنقاذ الجنديين.
لكن المفارقة بين الحدثين هو أن الشباب الفلسطينيين كانوا أكثر جرأة وأشد بأسا في عام 2000، خاصة مع تصاعد أعمال المقاومة في بداية انتفاضة الأقصى، وكذلك فإن أفراد الأمن اليوم هم أكثر تجرؤًا على الدم الفلسطيني، وليس أدل على ذلك من قتلهم الشهيد نزار بنات والاعتداء على كثير من أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة المحتلة.
وفي أول تعقيب إسرائيلي على حادثة إنقاذ المستوطنين على يد أفراد الأمن الوقائي فقد قالت القناة العبرية 14: "الحقيقة يجب أن تُقال بأمانة ونزاهة: لولا التنسيق الأمني بين (إسرائيل) والسلطة الفلسطينية، لانتهى حدث الليلة بطريقة مروعة، تمامًا كما حدث قبل عقدين" في إشارة إلى حادثة مقتل الجنديين، وفي إثر ذلك سيزور المنسق الإسرائيلي في تلك المنطقة نظيره الفلسطيني للتعبير عن شكره وامتنانه، كما قدمت المستوطنة استر شرعبي شكرها لأجهزة السلطة الأمنية، بعدما أنقذت نجلها مع مستوطن آخر من قبضة ثوار رام الله، عقب تسلل مركبتهما إلى المدينة، قائلة: "أريد أن أقول شكرًا للشرطة الفلسطينية".
هذا الشكر لم يكن الأول المقدم لأجهزة السلطة، فقد سبقها الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد معركة "سيف القدس"، حين اتصل بزعيمهم المفدى عباس لشكره على عدم انجرار الضفة الغربية إلى معركة المقاومة في غزة دفاعًا عن القدس، وعليه استمرت الإدارة الأميركية في دفع الأموال المخصصة لدعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية لمكافحة الإرهاب، التي تقدر بنحو 80 مليون دولار، يتم تسليمها بالحقائب مباشرة لقادة الأجهزة الأمنية، في الوقت الذي قطعت فيه المساعدات عن السلطة منذ 2018.
ولكن لا أعلم لماذا يقدّمون الشكر لأجهزة أمنية تقوم بواجبها في الحفاظ على أمن الاحتلال ومستوطنيه، فقد تعلمنا منذ الصغر أنه "لا شكر على واجب"، وقبل الختام لا بد من رسالة نوجهها إلى أبطال الضفة المحتلة بأنكم لن تتخلصوا من الاحتلال إلا إذا تخلصتم من أزلامه ووكلائه والقائمين على حمايته.