فلسطين أون لاين

​هذه "عِيديتي" لكَ يا شادي

...
شادي فراح (14 عامًا) مع أمه من داخل سجون الاحتلال
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

إلى طفلي الحبيب الذي كبر قبل أوانه:

أتعرف أن رسالتك التي أرسلتها لي من داخل السجن لتهنئني فيها بذكرى ميلادي الأربعين تكاد تَبلى، في كل يومٍ تعانقها يدي، أحدَّق بخطك "المُخربش" المكتوب بقلمٍ رصاص، وأحفظ تعرَّجاته الحنونة عن ظهر حب.

ماذا أفعل يا شادي؟!، حروفك هي من تخفف ثقل صخرة الحكم الصادر ضدك، الذي سرق وسينهش من عمرك ثلاثة أعوام.

لا أبالغ إن قلت إنها أجمل هدية وصلت إلي في حياتي، كلماتك الطفولية البريئة أحتضنها وكأنها عهد مقدس، وكيف لا أصونها وأنت تقول في مطلعها: "كل عام وأنتِ بخير، أقولها هذه المرة وأنا بعيدٌ عنكِ"، ثم تختمها بتأكيد حبك المؤكد: "أحبكِ يا أمي"؟!

وما بين السطور توصيني كشيخ هرم أن "ابقي رافعة الرأس مثل شجرة النخيل، لا يهزها ريح ولا زلزال ... ولا تحزني لأن هذا اختبار من عند الله".

منذ غيابك يا بني أنا منشغلة بتقليب التقويم، وتساورني الرغبة دائمًا في نزع أيام إضافية، علها تقرب موعد عودتك إلى حضني، كلما تذكرت اعتذارك لي: "آسف لأني جعلتك تأكلين دون نِفس"؛ قلت: "بل اعذرني أنت _"يا كبدي"_ على قلة حيلتي".

أول مرةٍ سأبوح لك بهذا: في ليلة 29 كانون الأول (ديسمبر) عام 2015م لم تدعني الكوابيس ألتقط أنفاسي، كنت ما بين غفوة وأختها أستيقظ وعرقي يتصبب، وقلبي يرتعش، فأذكر الله وأستغفره ثم أرمي برأسي على الوسادة.

عندما أشرق الصباح سارعت إلى طبع قبلة على جبينك، قبل إيقاظك لتجهز نفسك لامتحانات الصف السابع، فنهضت _يا شادي_ بكامل حيويتك المعهودة، أما قلبي فكان ينبض بقوة غريبة، تناسيت الأمر وأخذت أشغل نفسي بتحضير حقيبتك المدرسية، ثم طلبتَ مساعدتي بشدّ رباط حذائك، وخرجتَ بعدها إلى المدرسة.

بعد الظهيرة لاحظنا تأخرك، حاولنا الاتصال بك دون جدوى، حتى حلَّ الليل ومعه الخبر: "قوات الاحتلال تعتقل الطفلين شادي فراح وأحمد الزعتري بتهمة محاولتهما تنفيذ عميلة طعن في مدينة القدس المحتلة"، كأن خنجرًا غرسوه في قلبي، ألوان من الأسئلة اجتاحتني، كيف ومتى ولماذا؟

أأضحك أم أبكي؟!، شادي الذي لا يقوى على ربط حذائه بنفسه يريد أن يطعن؟!، فلذة كبدي الذي كان يتسلل خفية إلى "الثلاجة" كي يحضر بعض اللحم للقطط الضالة عطفًا عليها مُتهم بالتخطيط لعملية؟!، صغيري الذي ما تردد يومًا في مداوة الحيوانات المجروحة، كيف تجبرت "دولة احتلال" بأكملها على طفل ما برح يطلب في كل زيارة له: "ماما، جبيلي معك شوكولاتة المرة الجاي"؟!

وبعد مرحلة القهر الممنهج في مسالخ التحقيق بُحَّ صوتك، وكبرتَ خلال عشرة شهور حتى نسيت أنك طفل في الثانية عشرة، أما أنا فلم أستطع إلا التبسم في وجهك الملائكي واستلهام الصبر من براءة تقافزت من عينيك الجميلتين، كنتَ بصمتٍ تحكي عن ظلم سجان كبرت سريعًا بسببه، لا أنسى حرقة قبلاتي على جبينك في تلك الزيارة، يا شادي.

وفي قاعة المحكمة حيث الجنود المدججون بالأسلحة، والأصفاد تكبل قدميك ويديك أخذتَ تمصّ أصبعك، كانت المرة العشرين التي تعقد فيها الجلسة للنظر في حكمك، مع أن قضاتهم الثلاثة قد اتفقوا على حكمك قبل أول جلسة، تمنيتُ لو أن أحدهم يوقظني من ذلك الكابوس، ولكن "جفَّت الصحف"، وانقلبت حياتنا رأسًا على عقب.

أمك التي تحبك كثيرًا _وأنت لا تعرف ما تعريف "الكثير" عندها_ ليتها تستطيع هدم جدران السجن أو صهر الباب الحديدي، كي تخلصك من حقدهم، حتى لو كان الثمن روحها.

أعلم أن ذاكرتك أمست مثقلة بأحداث سوداء، منذ أن أجبروك على التعري داخل زنزانة شديدة البرودة، مرورًا بوضعك في غرفة ليلها ونهارها سواء، وليس انتهاء بحرمان نفسك بنفسك النوم خشية أن يعتدي عليك أحد الجنائيين الذين تعيش في وسطهم.

اغفر لي _يا صغيري_ عندما تجد صمتي جوابًا عن أسئلتك في كل زيارة: "لماذا تتركوني هنا؟!، خذيني معك يا أمي"، عندما تجد "حسبنا الله ونعم الوكيل" جوابًا وأنت تكشف عن آثار الصعق الكهربائي في جسدك الهزيل، سامحني عندما تشعر أن أصابعي تكاد تخترق لحمك وأنا أتفحص كل خلية فيك قبل الفراق.

تدمع ابتسامتي حين أتذكر ما كنتَ تحكيه لرفيق محنتك "أحمد" عن مغامراتك عندما تهرب من الباب الخلفي للمنزل، خشية أن يراك والدك فيمنعك من مشاركة "المسحراتي" في إيقاظ سكان الحي (كفر عقب) في ليالي رمضان.

القدس تشتاق إليك يا بني، وباحات الأقصى تنتظر شابًّا جديدًا مثلك يتعلق قلبه بها، أعرف أنك في كل ليلة تغلق عينيك وتتجه بهما إلى الأعلى، وتحلم بأن يخطفك شعاع الحرية من أنيابهم، فتفاجئني بعودتك مثلما كنت تسعدني بإطلالتك صبيحة كل عيد.

آه ما أصعبها _يا شادي_ تلك الساعة التي أخرج فيها إلى السوق لأشتري ملابس العيد لأشقائك (ميس ومروان وريان)، ريان أخيك الحبيب الذي صار ينام في فراشك، ما أقسى سؤال ذلك البائع: "لماذا لا تأتي بصغيرك الرابع كي يشتري ما يناسبه بنفسه؟"!

هذه المرة اشتريتُ ملابسك من إيطاليا من جنيف، لقد سافرت إلى أقاصي البلاد من أجل إيصال قضيتك "أصغر أسير في العالم"، لقد تغيرت شخصيتي بفضلك، صارت أمك ناشطة في حقوق الإنسان، وطموحها ينصب على دراسة القانون الدولي سعيًا لنيل حريتك.

أنا واثقة بأن كلماتي هذه ستصل إليك بشكلٍ ما، كنت أتمنى أن أعايدك بشكلٍ أجمل، وأن أعطيك أول "حبة شوكولاتة" قبل صلاة العيد، "كل عام وأنت بخير يا بني"، هذه الكلمات الخمس كلُّ حرفٍ منها يُقبلَّك ويُوصيك بأن تكون صبورًا متبسمًا، وأنت تقف أمام المرآة محاولًا اقتلاع سيئاتك، والعثور على إيجابياتك، أوليس شادي الصغير هو من قال هذا؟!

وإني أترقب العيد الحقيقي بالساعة والدقيقة والثانية يوم أن تفتح باب البيت وتنادي: "وينك يا إمي؟، أنا جِيت يا غالية".