أقرت الأمم المتحدة عام 1977 التاسع والعشرين من نوفمبر يومًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وبقيت هذه المناسبة منذ ذلك الوقت مجرد احتفالية يقيمها بعض أنصار الشعب الفلسطيني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، للتعبير عن استيائهم من عدم تطبيق القرار الدولي رقم 181، الذي قسم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، وأبقى على القدس وبيت لحم تحت إدارة دولية على أساس أنهما أماكن مقدسة تمثل رمزًا دينيًّا مقدسًا للديانات السماوية الثلاث.
منذ عام 1977 لم يتطور هذا التضامن ليصل إلى حد الضغط على الكيان الصهيوني المغتصب للأرض الفلسطينية من أجل الالتزام بالقرار الدولي على ضعفه وتفريطه بحق الفلسطينيين، ولكن ظل هذا اليوم كناقوس يدق في هذا الموعد من العام ليذكر العالم بأن هناك شعبًا مظلومًا هجر من أرضه، وتواطؤ العالم مع المجرم باستمرار سكوت الغالبية العظمى من دول العالم عن هذه الجريمة، وبدعم من عدد من الدول صاحبة الإرث الاستعماري، التي كانت سببًا في نكبة الشعب الفلسطيني وتشريده.
الجديد الذي يطالعنا في الذكرى السنوية للتضامن مع الشعب الفلسطيني هو أن هذا التضامن تحول في السنوات الأخيرة إلى تخاذل بل إلى تصادم مع الشعب الفلسطيني، ذلك بعد أن أقدمت بعض الدول الخليجية ثم تبعتها دول عربية أخرى على تطبيع علاقتها مع الكيان المغتصب على حساب حقوق وتضحيات ودماء الشعب الفلسطيني، ليتطور الأمر بعد ذلك فتعقد إحدى الدول العربية، وهي المغرب التي يفترض بها أن تكون الحارسة والساعية للحفاظ على المدينة المقدسة من التهويد أو الاستيطان برئاستها لجنة القدس؛ تعقد المغرب بعد أن طبعت علاقتها مع الكيان اتفاقية أمنية واتفاقية دفاع مشترك، ويبدو أن النظام الملكي في المغرب بهذه الاتفاقية يكشف عن علاقة قديمة مع الكيان الصهيوني، وليس كما يدعي النظام المغربي أنه يؤسس لعلاقة جديدة، ذلك أن الملك الحسن والد الملك الحالي كان يحرص طوال حياته على استمرار علاقته مع الكيان بدعوى إيجاد قناة تواصل تعمل من أجل الشعب الفلسطيني، ثم يتضح اليوم أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق، ولكنه كان منذ البداية علاقة حرام بين مغتصب وحارس أرض مغتصبة، فيصدق فيها قول الشاعر مظفر النواب: "القدس عروس عروبتكم فلماذا أدخلتم كل زناة الأرض إلى حجرتها؟!".
العلاقات العربية الصهيونية التي تظهر إلى العلن أخيرًا تكشف لنا حقيقة لم تكن غائبة تمامًا، بل كانت ملموسة لكنها غير ظاهرة، هذه الحقيقة هي أن هذا الكيان تغذى وعاش ليس على تواطؤ الأنظمة العربية فقط، ولكن دعمها السري المستمر له منذ إنشائه حتى الآن، ولم يكن تباكيهم على القدس وفلسطين إلا مشاهد تمثيلة في مسلسل خياني طويل تعاقبت عليه أجيال من الحكام، وربما يعلل لنا ذلك عجز المقاومة الفلسطينية على مدار تاريخها واختلاف تنظيماتها رغم تضحيتها الهائلة عن تحقيق أي شكل من الاستقلال الوطني، إلا بعد أن نفضت يدها من هذه الأنظمة، فكان حصار غزة "الحرة"، ذلك أن خط الإمداد السري للكيان لم يكن غربيًّا كما كنا نظن، بل كان عربيًّا حتى النخاع.
الغريب في الأمر أن ما يظهر إلى العلن الآن يكشف زيف خرافة التضامن العربي وفكرة العروبة من أساسها، هذه الفكرة التي لم تحقق منذ الحرب العالمية الثانية أي إنجاز سوى تردي الأوضاع السياسية وفساد الحكم، وانخفاض مستوى التنمية، والتخلف العلمي والتكنولوجي، ما أظهر العرب شعوبًا متخلفة لا تطمح إلى أكثر من التشبث بذيل الحضارة الغربية.
ربما لم يعد خافيًا اليوم أن معظم الأنظمة الحاكمة في الدول العربية شرعنت استيلاءها على الحكم وحكمت شعوبها منذ البدايات باسم تحرير فلسطين واستعادة الحقوق العربية، في الوقت التي كانت تسعى فيه دائمًا إلى نسج علاقة سرية محرمة مع الكيان الصهيوني، من أجل الحفاظ على استقرار حكمها الفاسد، والسماح لها بقمع شعوبها دون رأفة، كلما تململت تحت وطأة الفساد.
اليوم تتجلى مقولة إن الأيام كاشفة، ولقد كشفت أيام العرب الأخيرة مدى قذارة أنظمتهم، وإلى أي مدى ذهب هؤلاء في ممارسة كل ما هو محرم من أجل البقاء أطول مدة حكامًا فاسدين على عروش ملوثة بخيانات تاريخية مستمرة.
اليوم أيضًا تتجلى حقيقة واضحة، وهي أن الشعب الفلسطيني لم يبدأ طريق التحرير إلا بعد أن اعتمد على نفسه وأسس قوته دونما انتظار لجيوش عربية نظامية لا تصلح إلا لقمع الشعوب والعروض العسكرية.
فكانت قوته (على تواضعها) درعًا واقيًا وسيفًا حاميًا، ردعت العدو بشهادته، في الوقت الذي تتوسل فيه الأنظمة العربية للكيان الصهيوني ليوفر لها أمنًا مفقودًا شرقًا وغربًا، الأمر الذي يثير سؤلًا ساخرًا: كيف لكيان لا يستطيع أن يوفر الأمن لنفسه أن يوفره لأنظمة تحكم شعوبها بالإكراه؟!
إنه الوهم الذي يدفع صاحبه للانتحار ظنًّا أن بذلك يريح نفسه من اضطرابها.