فلسطين أون لاين

عاد إلى مرماه بعد 9 سنوات من الأسر

عمر أبو رويس.. الحارس الذي راهن الاحتلال على خلع قميصه

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

نزل إلى أرضية الملعب لأول مرة بعد تسع سنوات من الأسر، وفي جعبته ظلمة سجنٍ سرق تألقه في الملاعب وغربة أبعدته عن حلمه، أصوات هتافات الجماهير على اسمه تتعالى يطلبون منه التوجه نحو المدرجات، لم يتأخر في تلبية النداء رافعًا يديه للأعلى يبادلهم التحية مثلما كانوا يحيونه من قبل، تمر عليه مشاهد كثيرة تحتفظ بها ذاكرته حينما كان يحمي المرمى.

لاعبو الخصم يصفقون له أيضًا، زملاؤه يحيونه ويشدون من أزره، الأنظار كلها تتجه إليه، فبينما كان يمسك بالكرة كان يتأمل الملعب الذي تغير شكله. يحدق في زملائه الذين اعتزل بعضهم وانتقل آخرون لنادٍ آخر. صوت صافرة الحكم يعلن انطلاق المباراة في لحظة نزلت منه دموع الفرح على حين كان يحرك رقبته بانحناءة يمينًا ويسارًا ويضم قبضته متحمسًا لخوض أولى مبارياته الودية ضد نادي "سنجل".

تسع سنوات أمضاها اللاعب عمر أبو رويس خلف القضبان، حينما كان في أوج عطائه الكروي في بداية العشرينات من عمره، إذ كان حارس مرمى نادي شباب "الأمعري"، ثم لعب في المنتخب الفلسطيني الأولمبي، ليعانق الحرية وهو على أعتاب الثلاثين، رافضًا التنازل عن حلمه كما كان يقول له المحققون في السجن: "مش راح تلبس تيشرت النادي والمنتخب مرة تانية!".

حرمان خارج السجن وداخله

"الاحتلال حرمني ممارسة كرة القدم تسع سنوات، أيضًا داخل الأسر حاربني ومنعني من ممارسة الرياضة نهائيًّا، لدرجة أني لم أرَ كرة القدم خلف القضبان، واليوم أعود للملاعب لأقول له: إننا كشعب إرادتنا صلبة وقوية لا ننكسر بسهولة كفلاح اقتلعوا شجره وعاد ليزرع، ومواطن هدموا بيته وعاد لبنائه".. تنصت صحيفة "فلسطين" لحكاية أبو رويس.

لحظات الفرح التي عاشها في مباراته الأولى حاضرة في صوته: "دخولي للملعب في أولى المباريات بعد التحرر من السجن كان من أجمل لحظات حياتي، كان الشعور جياشًا، فرح ممزوج ببعض الألم؛ كيف تركت الملاعب قبل تسع سنوات وعدت بهمة أكبر وإرادة قوية".

لمس الكرة كان له تأثير قوي على قلبه ونفسيته، إذ شعر حينها أن الحلم لا يتحطم إذا امتلك الإرادة والتصميم على النجاح والصعود، "فبعد الحرية عدت للتمارين وللمشاركة في المباريات الودية وتدريجيًّا تعود الثقة واللياقة التي حاولت المحافظة عليها في السجن".

بدأت هواية عمر مع كرة القدم منذ طفولته، عززها أحد مدرسيه الذي زرع بذور الثقة داخل قلبه فاختير للعب بمنتخب المدرسة، وانتمى لنادي "الأمعري" وانخرط في جميع المراحل الأشبال والشباب حتى الفريق الأول، سانده أهله وأصدقاؤه والمدربون، تعب وتدرب كثيرًا حتى أصبح الحارس الأساسي لعرين الفريق.

صورة من البدايات تقفز إلى حديثه: "أذكر أول بطولة حققتها مع أشبال الفريق على مستوى محافظة رام الله، ثم تكرر الإنجاز لسنوات أخرى، وبطولة أريحا الشتوية، وكنت أحصل على لقب أفضل حارس مرمى".

الوصول للمنتخب

توالت الإنجازات بعد ذلك، ليصل عمر إلى القمة الكروية أو بالأحرى إلى حلمه باختياره للعب في صفوف المنتخب الفلسطيني الأولمبي. يطرق باب الذاكرة مستعيدًا تلك اللحظات: "ما يميز لعبنا كفلسطينيين لكرة القدم، هي الرسالة التي نحملها.. شعب يريد الحرية يستحق الحياة يعيش تحت حصار واحتلال. فلعبت مع المنتخب الكثير من المباريات في تصفيات كأس آسيا وكأس العالم ولعبت مباريات عديدة أمام لبنان، وتونس، والبحرين ومباريات أخرى".

أولى مبارياته مع المنتخب التي كانت أمام المنتخب الأردني تطل عليه من نوافذ الذاكرة، "كانت إحدى أهم المباريات لأني عشت أجواءها، تخيل أن جمهور المنتخب الأردني كان يشجعنا، ما أعطانا حافزًا وانتماءً، فشعرت بعمق الرسالة الوطنية التي نوصلها واستطعنا الفوز بهدفين لهدف".

وفي مباراة أخرى تأثر عمر حين استضافت لبنان إحدى المباريات، ورأى زحفًا جماهيريًّا كبيرًا من مخيمات اللاجئين، "يومها شعرنا أننا في بلدنا وبين أهلنا وكانت مشاعر جياشة وصلت فينا إلى أننا بكينا"، ومن النفس الذي منحهم إياه الجماهير استطاع الفوز وتحقيق النصر.

مصادرة الحلم

أما واقعة الاعتقال التي أبعدته عن الملعب، فكانت بعدما أنهى تدريبه الصباحي مع النادي.. يعيش المشهد ذاته مرة أخرى: "في أثناء عودتي للمنزل اعترضتني قوة إسرائيلية خاصة بلباس مدني، واعتدوا عليَّ بالضرب بطريقة وحشية، كانت لحظات صعبة وضعت بزنزانة انفرادية لمدة 50 يومًا، حينما كنت عائدًا من مشاركة خارجية مع المنتخب في إيطاليا وكنا نستعد لمشاركة أخرى في دبي".

يقول: "في الخميس يومًا فكرت كثيرًا في مستقبلي وحلمي الذي بنيته طوال سنوات وأراه ينهار أمامي".

كان كلام المحققين يتقاطع مع الظروف التي أجبر على العيش فيها داخل السجن، إذ قال له أحدهم يومًا: "انت انتهيت، فش رياضة.. راح تروح ختيار من السجن"، كانت تلك الكلمات تكرر على مسامع عمر بعد نهاية كل جولة تحقيق بصيغ مختلفة: "بعد عشرين سنة مش حتلاقي ملاعب.. مش حتلبس قميص المنتخب تبعك مرة تانية".

ولا يخفي عمر سرًّا أن تلك الكلمات أثرت فيه كثيرًا، ففي السجن عُزل عن كرة القدم التي لم يرَها إلا في منامه، يستيقظ تملؤه طاقة كبيرة حاول بها جاهدًا الحفاظ على لياقتيه على الرغم من منعه من ذلك، فكلما رآني مدير السجن أمارس الرياضة أمرني بالتوقف قائلًا: "انت بالذات بديش أشوفك بتلعب رياضة".

الكؤوس ودروع التتويج التي نالها كأفضل حارس مرمى في مسيرته الكروية الأولى كانت تزين غرفته قبل أن يبطش به الاحتلال قبل أشهر من الإفراج عنه، إذ اقتحمت قوات الجيش منزله وحطم الجنود بعضها، موقنًا بأن ما فعله الاحتلال هو سلوك اعتاده أهالي الأسرى لقتل فرحة الأسير بالحرية ولإدراكهم القيمة المعنوية لهذه الدروع أو للمنزل عمومًا في نفس الأسير.

بعد مرور ثمانين يومًا من الإفراج عنه كان على وشك الالتحاق بنادي الأمعري غير أن الاحتلال اعتقد أنه سيدق المسمار الأخير في نعش حلمه عندما أعاد اعتقاله إداريًّا لمدة أربعة أشهر، لكن عمر خيب ظنه عائدًا للملعب، مفسدًا كل محاولات التحطيم التي مارسها الاحتلال عليه، لكنه عاد بإرادة أقوى متشبثًا بحبال الأمل.