لم يمر مشهد العساكر الملثمين في جنازة القيادي في حركة حماس وصفي قبها مرور الكرام على قيادة الاحتلال الإسرائيلي التي وصفت ذلك المشهد بأنه "غير عادي"، في إشارة إلى أن المسلحين خرجوا في شوارع جنين -المدينة وليس المخيم- غير آبهين بالأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية التي لا يبعد مقرها عن مركز المدينة سوى بضعة أمتار.
ما أثار قلق الاحتلال من هذا المشهد هو وجود العساكر في الشوارع علنًا، وهو ما عُدَّ نوعًا من التحدي لـ(إسرائيل) والسلطة الفلسطينية على حد سواء، فسارع رئيس السلطة محمود عباس إلى إقالة قادة الأجهزة الأمنية في مدينة جنين عقب هذا المشهد، في رسالة فُهمت أنها تعبير عن كمية الغضب التي أصابت القيادة الإسرائيلية الفلسطينية، وفُهمت كذلك أنها محاولة استسماح للعدو، وتأكيد أن هذا الأمر لن يتكرر، إضافة إلى أن قرار الإقالة يُظهر أيضًا توجسًا كبيرًا من الاحتلال والسلطة من عودة النشاط العسكري المنظم لحركة حماس في جنين بالتحديد، نظراً لاستمرار حالة التصعيد، ووجود ظاهرة تسليح تنتسب للمقاومة نتج عنها عدد من حالات الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال، تزامناً مع حالة تمرد للمخيم على السلطة.
ولكن أليس الأولى -وطنيًا- أن تكون الإقالة لقادة الأجهزة الأمنية في الخليل التي قتلت نزار بنات، وتضيّق على عائلته، ولم تحرك ساكنًا ضد الفلتان الأمني والاشتباكات المسلحة بين العائلات على مرأى ومسمع من قادته، و(...)؟ صحيح، كيف تحرك ساكنًا وهذا السلاح الذي يخرج للفلتان الأمني لا يخيف (إسرائيل) ولا يقلق أمنها، أما السلاح الذي خرج في جنين فمن المحتمل أنه يُفتح في وجه الاحتلال، فهو الذي من أجله تقام الدنيا ولا تقعد.
على أي حال، فإن هذا الكلام مفروغ منه، فالمشروع الوطني الذي تتبناه سلطة أوسلو قائم على أي شيء يخدم أمن الاحتلال، وهو ما جعل رئيس السلطة يقدم على إقالة الأجهزة الأمنية في جنين، ويبقي عليها في الخليل، غير أن رئيس الشاباك الإسرائيلي الجديد رونين بار لم يرُق له الأمر، فسارع نحو فرعِه في المقاطعة، وذهب للقاء محمود عباس لاستيضاح الأمر من قرب، وذلك بعد ساعات قليلة فقط من جنازة الوزير السابق وصفي قبها وظهور المسلحين التابعين لكتائب القسام.
هذا اللقاء جاء ضمن اللقاءات المسموح بها من حكومة الاحتلال مع رئيس السلطة الذي لا تعيره اهتماما سوى في الجانب الأمني الذي يخدمها فقط، وتضرب بمناشدته لأي لقاء سياسي عرض الحائط، بل إن رئيس الوزراء بينيت كثيرا ما قال إنه غير معني بلقائه، على الرغم من الخدمات الجليلة التي يقدمها عباس وسلطته للاحتلال في محاربة المقاومة في الضفة وتأجيج الصراعات الداخلية بين العائلات وتهميش القدس والأغوار، إضافة إلى عرقلة كل ما يمكن أن يخفف الحصار عن غزة.
إن هذه الزيارة التي أجراها رئيس الشاباك الإسرائيلي، وقبلها لقاء وزير الحرب بيني غانتس أواخر شهر أغسطس (آب) الماضي، وغيرهما من زيارات قادة الاحتلال الأمنيين السابقين والحاليين ليست إلا تفقدًا لسير الأعمال الأمنية في فرعها في المقاطعة، فكما هو معروف فقد أثبتت أجهزة السلطة الفلسطينية أنها ذراع أمني للاحتلال وأن الاحتلال لا يتعامل معها بأكثر من ذلك.
ولو جئنا لطبيعة المواضيع التي ناقشها رونين بار مع عباس في اللقاء الأخير معه لوجدنا أنها لا تختلف في جوهرها عن أي لقاء أمني مع السلطة منذ نشأتها، فقد بحث الواقع الأمني في الضفة خاصةً في ضوء حالة التصعيد المستمر في الضفة دون توقف، وحوادث الاشتباك مع الاحتلال المستمرة، بما في ذلك الضفة والقدس، وهناك حوادث مفتوحة دون توقف، وهي نفسها المواضيع التي بحثها رئيس الشاباك مع وزير المخابرات المصري عباس كامل قبل أسابيع، والهدف واحد هو تصفية القضية الفلسطينية بأقل الأضرار الإسرائيلية.
غير أن الجديد هذه المرة أن رئيس الشاباك تغيّر، وأن السلطة الفلسطينية تعاني أزمة أخلاقية واقتصادية ناتجة عن فساد مؤسساتها، وأنها تعاني كذلك أزمة وجودية نظرًا لأن كل مكونات الشعب الفلسطيني لفظها ولفظ قيادتها، وأن المانحين هددوا بإيقاف دعمها، في المقابل فإن حماس قد تنامت شعبيتها في الضفة الغربية وفي الوطن العربي والإسلامي بعد معركة سيف القدس.
وعليه فإنني أرى أن على المقاومة الاستمرار في إعادة لملمة صفوفها سياسيا وعسكريا في الضفة المحتلة، وأن تستفيد من حالة النشوة الثورية التي أحدثتها معركة سيف القدس، وإذكاء نقاط المواجهة مع الاحتلال، في ظل استمرار السقوط الأخلاقي والوطني المدوي للسلطة ورئيسها، ولكن بشكل مخطط ومدروس، حتى لا تكون ضحية مرة أخرى لفئة ليس همّها سوى البقاء على قيد السلطة.