لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عن طبيعة "المصنع" الذي أنتج ذلك الكائن الذي يمتطي سلاحه ويوجهه إلى صدور الأطفال والنساء، ويضغط على الزناد بدون أي تردد، ويقتل أحيانا بهدف القتل وربما لتبديد الملل، ولطالما تأملت ذلك الوجه الحجري للجندي الصهيوني وهو يستمع ببلاهة لاستغاثة امرأة فلسطينية داهموا بيتها ليلا وأثاروا ذعر أطفالها وبعثروا محتويات البيت، أو عجوز منع من الوصول إلى أرضه لحراثتها أو قطف ثمارها، ودفعه الجنود المدججون بالسلاح بعيدا، دون إشعارك أنهم يتعاملون مع مخلوق آدمي ربما يكون في عمر جدهم أو أبيهم، ولطالما تساءلت عن طبيعة المشاعر التي تنتاب سائق طائرة حربية تحمل أطنانا من القنابل، وهو يلقي بها على بيوت أهل غزة، وهو يعلم أنها ستبيد عائلات بأكملها، وهو ما حصل فعلا، وتساءلت: من أين تأتي كل هذه الوحشية؟ وما المفاهيم التي زرعت في ذهن ذلك القاتل حتى يقتل بالسهولة التي يتناول فيها فنجان قهوته في الصباح؟
الجواب وجدته في ذلك الكتاب الذي نشر في عام 2012 بعنوان "فلسطين في الكتب المدرسية في (إسرائيل): الأيديولوجيا والدعاية في التربية والتعليم" لمؤلفته نوريت بيلد-الحنان، وترجمه ياسين السيد ومن إصدار مركز المدار في فلسطين، وهو كتاب على جانب كبير من الأهمية لكونه يعرف القارئ على المفاهيم التي تزرع في ذهن القاتل الصهيوني، الذي يمارس جريمته ضد الفلسطيني باعتبارها "دفاعا عن النفس" حتى لو كان الأمر متعلقا بإبادة شعب، ذلك أن "الآخر" الذي يقتله هو -وفق وعيه وما علموه- هو مشروع قاتل، ويجب ألا يكون موجودا ابتداء.
تقول المؤلفة إن الكتاب يقدّم دراسة نقدية لجانب واحد من جوانب "الرواية الصهيونية الكبرى" التي تمثل، على نحو صريح وضمني في الوقت ذاته، الضمير الجمعي الذي يوجه المجتمع الإسرائيلي بكل فئاته وأطيافه، بالشكل الذي يُعاد فيه إنتاجها في الكتب المدرسية المقررة في ثلاثة حقول معرفية، وهي التاريخ والجغرافيا والدراسات المدنية (المدنيات). وتشتمل الدراسة على تحليل للنصوص البصرية واللفظية التي تمثل "الآخرين" الذي يغايرون اليهود الصهيونيين، وهم الفلسطينيون، بمن فيهم المواطنون الذي يقيمون في (إسرائيل)، وغير المواطنين الذين ما زالوا يعيشون تحت نير النظام العسكري في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. ومن الاستنتاجات المثيرة التي تتوصل إليها المؤلفة، أن الكتب المدرسية في (إسرائيل) تغرس في عقول الشباب اليهود "الرغبة في عدم المعرفة" عن الآخر، (وبالتالي فإن قتله لا يشكل أي مصدر للشعور بالذنب لأنه أصلا غير موجود، أو يجب ألا يكون موجودا، ووجوده مجرد خطأ يجب إصلاحه!) في الوقت الذي لا تشجع فيه (إسرائيل) مطلقًا "تعليم السلام" أو الاختلاط بين الطلبة اليهود والفلسطينيين، بل على النقيض من ذلك، فعلى الرغم من وفرة الفرص، لم يحصل أن تحول موضوع "السلام والتعايش" إلى جزء من المنهاج الأكاديمي الرسمي، ولم يحمل أي مصداقية أكاديمية في نفسه مطلقًا.
المفارقة هنا، وفي هذا الوقت بالذات تتعرض فيه المناهج العربية في كل البلاد العربية تقريبا لعملية تشويه وتحريف، طالت حتى شطب الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجهاد، والصراع مع اليهود، وتم تشويه صورة الوعي الجمعي للطالب العربي، استجابة لاشتراطات دولية، لا تلقي بالا لما يتعلمه اليهود في الكيان، من تشويه للإنسان الفلسطيني والعربي عموما.
إن المعركة بيننا وبين عدونا الصهيوني هي في الأساس معركة وعي، وبالقدر الذي نحافظ فيه على تشكيل وعي سليم في أذهان أجيالنا، بالقدر الذي ننتصر فيه في هذه المعركة، حتى مع رجحان كفة العدو من حيث القوة والتسليح وعناصر الدعم الدولي.
مهمة المناهج الصهيونية هي كيفية صناعة القتلة، ومسح الرواية الفلسطينية من الوجود، ومهمتنا الأساسية يجب أن تكون صناعة المقاوم، وإبقاء الرواية الفلسطينية حية في وعي الأجيال، ذلك أن صراعنا مع هذا العدو قد لا يحسم في هذا الجيل، وعلى الأجيال المتعاقبة أن تتعلم كيف تحمل مشعل المقاومة، وتسلمه من جيل إلى جيل، وصولا إلى لحظة التحرير، القادمة لا محالة إن شاء الله، طال الزمن أم قصر.