صيف عام 1994م في سجن النقب، كان المتحدث باسم المعتقل القائد أحمد الجعبري، وربما كان عدد المعتقلين الموجودين في سجن النقب في ذلك الوقت حوالي خمسة آلاف معتقل من مختلف الفصائل، كانت السلطة الفلسطينية قد دخلت إلى قطاع غزة ومدينة أريحا وفقاً لاتفاق أوسلو.
وكان يدور بين المعتقلين حديث محموم عن الإفراجات التي ستحدث طبقاً للاتفاق، وهناك حالة تشوق كبيرة جداً لأي خبر يأتي من زيارات الأهل أو المحامين أو الصليب الأحمر، وليس للمعتقلين من حديث إلا حديث الإفراج والعودة إلى الأهل والحياة التي حرموا منها، وليس هذا بالحال الغريب، فليس هناك حديث أهم من حديث الحرية لدى فاقدها.
أيام تمر وكأنها دهور وساعات تمضي ثقيلة، والكل يترقب ويرصد حركة إدارة المعتقل، ثم يتراءى لجموع المعتقلين حركة غير اعتيادية، ومجموعة من الضباط يحملون أوراقا كثيرة على غير عادتهم، ثم توضع طاولة أمام باب القسم أو "المرودان" كما يسمى بمصطلح المعتقل، ويجلس على الطاولة ضابط لديه كشوف عديدة وبجانبه شرطي، وبحركة لا إرادية يتجمع المعتقلون قبالة باب القسم الذي كان حديديا، وجدران القسم "الأسلاك الشائكة" على عدة مستويات، ومهاجع المعتقلين كانت خياما لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف، وليس فيها أدنى مستويات الحياة.
يبدأ الضابط بالحديث بأن من يسمع اسمه يجهز نفسه "للشحرور" أي الإفراج باللغة العبرية، على أن يوقع على تعهد أعدته إدارة السجن، وبدأ الشرطي يقرأ أسماء المعتقلين والكل يصمت وكأن على رؤوسهم الطير، طبعاً كانت الأسماء التي تُقرأ كلها لأبناء التنظيمات المحسوبة على منظمة التحرير، ولكم أن تتصوروا الحالة الإنسانية والمشاعر التي تكتنف الأسرى في تلك اللحظات، فمن يسمع اسمه يتهلل وجهه فرحاً والآخرون يترقبون حتى آخر اسم، فتكسو وجوه من سمعوا أسماءهم السعادة وترتسم معالم الحزن على وجوه الآخرين، وتبدأ بعد ذلك مراسم الوداع لمن يغادر وينزوي رفاقهم الماكثون حيناً في حالة من الحزن والغضب والترقب بانتظار قوائم أخرى.
معتقلو حماس لم يكن لهم ذلك الأمل الكبير الذي يملأ قلوب معتقلي منظمة التحرير، وذلك لأنها عارضت اتفاق أوسلو منذ البداية، وبالتالي لم يكن لدى معتقلي حماس القدر نفسه من الاهتمام بحديث الإفراج الذي يسري في المعتقلات كالنار في الهشيم، إلا أن بعضاً من الأمل بقي عالقاً في قلوبهم بأن تشملهم هذه الإفراجات، فالحرية عزيزة وغالية تعشقها النفس وتصبو إليها الروح.
شملت القوائم الأولى للمعتقلين المفرج عنهم معظم معتقلي منظمة التحرير باستثناء أولئك الذين "تلطخت أيديهم بالدماء" حسب الوصف الصهيوني، الذين لم ينالوا حريتهم إلا بصفقة وفاء الأحرار، تلك الصفقة التي أشرف عليها وهندسها القائد الجعبري على طريقته بعد ذلك، ثم بدأت إدارة السجن بإصدار قوائم لمعتقلي حركة حماس، وكانت بطبيعة الحال ترغب في إخضاعهم لشروط الإفراج نفسها التي خضع لها معتقلو منظمة التحرير، وذلك بالتوقيع على وثيقة يقر فيها كل معتقل أنه يتعهد بنبذ العنف اتساقاً مع اتفاق أوسلو، وكانت الكلمة الفصل في ذلك الموقف للقائد الشهيد أبي محمد: "حاشا لله"، وأذكره تماماً وهو يلقننا معنى كلمة "حاشا لله" باللغة العبرية "حسفا حليلا" إذ كانت أعمارنا بين 19-20 عاماً ولم تكن لنا دراية باللغة العبرية التي كان يجيدها أبو محمد بطلاقة، وما أعظمه من موقف حينما ينادي على أحدنا ضابط الأمن لنقف أمامه عند باب المعتقل فيخبرك أن اسمك في قائمة المفرج عنهم، ولكن ينبغي عليك أن توقع على هذه الورقة، فيقول معتقل حماس الذي يُساوم على حريته بكل أنفة: "حسفا حليلاً"، معاذ الله، ثم يعود إلى خيمته، وكم كانت ملامح الإهانة بادية على محيا ضابط الأمن وهو يثور غضباً.
بقي هذا الموقف التاريخي لمعتقلي الحركة صلباً ولم يتغير، إلى أن خضعت إدارة السجن وشطبت جملة التعهد بنبذ العنف من ورقة الإفراج، ليصدر قرار قيادة المعتقل بعدها بترك الأمر لكل فرد من المعتقلين ليقرر بنفسه، وعلى الرغم من أن أبا محمد -رحمه الله- كان قد قضى في سجنه اثنتي عشرة سنة، وبقيت له سنة كاملة لإنهاء محكوميته فإنه آثر أن يقضيها في السجن دون أن يتحمل مِنَّة خروجه بموجب اتفاق أوسلو.
هذه كلمات نخطها في ذكرى استشهاد البطل، فالرجال مواقف، وعظمة الرجال تصنع بمواقف الرجولة، ولقد كان أبو محمد -رحمه الله- رجل المواقف.
قف دون رأيك في الحياة مجاهدًا ******* إن الحياة مواقف وجهادُ