لا يختلف اثنان في أن الوضع السياسي الفلسطيني عالق في مأزق منذ نحو خمسة عشر عامًا، ورغم كل محاولات الخروج من هذا المأزق التي بذلت لم نستطع الشعب الفلسطيني الخروج من هذا المأزق، وفشلت كل المحاولات والمبادرات والخطط والوساطات لإنهاء هذه الحالة المستعصية، ولما كان للفشل أسبابه دائمًا؛ فإن النجاح له أسبابه أيضًا، وربما أصبح واضحًا أن السبب الأساسي للفشل الذريع لكل ما سبق من محاولات لإصلاح الوضع السياسي الفلسطيني وإنهاء حالة الفرقة والتشرذم؛ كان التناقض الواضح بين التوجهات السياسية التي تحكم عمل الفصيلين الأكبرين في الساحة الفلسطينية، فكان لزامًا على أي خطة إصلاح أن تأخذ بعين الاعتبار أسباب الفشل جميعًا، وتضع لها الحلول القابلة للتطبيق، بما يضمن نجاح أي مبادرة قادمة للخروج من مأزق الحالة السياسية الفلسطينية، ولذلك جاءت مبادرة السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس كي نتجاوز أسباب الفشل ونتبنى رؤية إصلاحية على أسس ثابتة من الفهم الدقيق للوضع السياسي الفلسطيني برمته بأبعاده وتعقيداته وتشابكاته، آخذةً بعين الاعتبار الوضع الداخلي وتعقيداته، والوضع الإقليمي كذلك وتشابكاته، والتناقض الدائم مع الاحتلال، ثم الوضع الدولي عامة، وهو المحيط الأوسع الذي يمكن أن تتحرك عبره القيادة الفلسطينية.
النقاط الأربع تقريبًا التي ارتكزت عليها رؤية السيد إسماعيل هنية هي لبنات بناء أسياسية لأي مبادرة إصلاحية يمكن أن يكتب لها النجاح، لأنها لو نجحت -ونرجو ذلك- فهي تعالج أسباب الفشل التي كانت تكمن في كل المبادرات والرؤى السابقة، ذلك أن تلك المبادرات كانت تقفز على آفات الوضع السياسي الفلسطيني محاولة الوصول إلى هدف الإصلاح دون معالجة الخلل القائم، فكانت النتيجة دائمًا هي الفشل، ولذلك كان أول أركان هذه الرؤية التي تقدم بها السيد/ هنية هو إعادة الاعتبار للمشروع الوطني في بعديه العربي الإسلامي، وتكمن أهمية هذا الركن في ضرورة العودة إلى مصادر القوة التي تسلحت بها القيادة الفلسطينية خلال الحقبة السابقة على مشروع السلام الذي فتت الموقف العربي ومن بعده الموقف الإسلامي، وجعل هذا الجدار الذي استند إليه الشعب الفلسطيني حطامًا من بعد قوة، بل سرى الوهن في الجسد العربي من بعدما أصاب الجسد الفلسطيني، فكانت النتيجة أن هناك من تسابق إلى التطبيع مع العدو دونما أي اكتراث لحقوق الشعب الفلسطيني التي ينتهكها العدو ليل نهار، وتجاوزه على المقدسات الإسلامية التي تمثل حرمًا عقديًّا ووجدانيًّا ما كان له أن يعتدي عليه، لو كان هناك موقف عربي وإسلامي موحد.
أما الركن الثاني من رؤية السيد/ هنية -وهو لا يقل أهمية عن الركن الأول- فيتمثل في إعادة بناء منظومة القيادة الفلسطينية متمثلة في منظمة التحرير بحيث تشمل كل المكونات الفلسطينية في الداخل والخارج، وهو أمر لا يمكن أن تستقر الحالة الفلسطينية دونه، وهي المسألة التي كان لها أشد الأثر في فشل مبادرات الإصلاح السابقة، ذلك أن بعض القوى التي اندثرت من خريطة العمل السياسي الفلسطيني ما زالت تُجيّر من أجل اتخاذ مواقف بعيدة كل البعد عن نبض الشارع الفلسطيني، ظانةً أنها بذلك تحافظ على شيء من الوجود الذي غاب من الميدان ولم يعد يشعر به المواطن، وفي الوقت نفسه غُيبت القوى الفاعلة والمؤثرة في مفاعيل العمل السياسي الفلسطيني، وبذلك أضحت منظمة التحرير مغلقة على جهات تبحث عن كينونتها وجهات أخرى تبحث عن حقوق الشعب، ولذلك كان الإفشال لكل مبادرات الإصلاح، لأنها تعني -لا شك- غياب بعض تلك الجهات التي احتكرت دون وجه حق التحدث باسم الشعب الفلسطيني وشرعية تمثيله.
أما الركن الثالث -وهو الاتفاق على برنامج سياسي وطني- فهو من وجهة نظري عمود الخيمة الذي لا يمكن أن تقام دونه خيمة الإصلاح السياسي، فاختلاف البرامج إلى حد التناقض هو لا شك عنوان فشل، وكان ينبغي العمل على الاتفاق على برنامج عمل سياسي قبل أي مشروع إصلاحي، لأن التناقض لا يمكن أن يؤدي إلى الإصلاح، والركون إلى برنامج يمثل رؤية سياسية فشلت على مدار ثلاثين عامًا ضرب من العبث، ولذلك إن الاتفاق على برنامج سياسي يحكم عمل القيادة السياسية الفلسطينية خلال المدة المقبلة هو أمر لا غنى عنه، ولا يمكن أن تنهض رؤية إصلاحية دونه.
أما الركن الرابع لرؤية السيد/ هنية المتمثل في الاتفاق على إستراتيجية نضالية ضد الاحتلال فتكمن أهميته في الخروج من حالة الجدل المستحكم في أساليب نضالنا ضد الاحتلال، وما سببه ذلك من خلاف في المفاهيم أدى إلى تشبث كل فريق برؤيته الخاصة، رغم أن الوسائل قد تختلف وتتغير باختلاف الأزمان والظروف، ولكن تبقى إستراتيجية العمل النضالي ثابتة، وهذا ما افتقدناه في العمل السياسي الفلسطيني خلال المدة الماضية.
تلك الأركان الأربع التي مثلت رؤية السيد إسماعيل هنية تمثل -من وجهة نظري- طريقًا واضحًا وصريحًا للخروج من المأزق الفلسطيني، الذي لم نستطع الخروج منه منذ أحداث الانقسام حتى الآن، بل كان عدم العمل عليها سببًا في فشل حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت عام 2007م، وفشل اتفاق مكة، وكل الاتفاقيات التي تلت ذلك، وكان سببًا رئيسًا في أحداث الانقسام التي أدمت قلب الشعب الفلسطيني ولا يزال ينزف حتى الآن، فهل آن الأوان لوقف هذا النزف؟