فلسطين أون لاين

​ولا أنسى الليلة الأخيرة قبل السكتة

...
أحمد العمري
غزة - نجلاء السكافي

يا أغلى من روحي ودمي يا ست الحبايب يا حبيبة، سبعةٌ نلتف حولك ونغني لكِ، لا ننتظر عيدًا لنصنع البهجة، كنتِ أنتِ في صباحنا العيد، كيف اتسع قلبكِ لتصبحي أمًّا للجميع؟!

الخالات والعمات، الصغيرات والكبيرات، بيتك جنة من السمر والفرحة، لا تخلو منه اللّمة، دائمًا ما تجذبين الأحبة نحوكِ، امرأة ماهرة في صنع البهجة تفتح كفيها على انفراجهما، لينساب من قلبها الودّ والرحمة كنهرِ حنان، كزهرِ أقحوان.

ربما لم أتخيل يومًا أن تموت أمي، هل كنت أظنها خالدة؟، لم أفهم معنى الموت، لم أكن أدركه، كانت أول مقابلة تعارف بيننا هي حادثة غياب أمي، كان موتًا فجائيًّا بسكتة قلبية، نمتِ ليلتها _يا أمي_ ولم تستيقظي ولم يعد لـ"صباح الخير" مكان في توقيت اليوم، كان موتًا في حدّ ذاته هادئًا، لكن صوته هزّ الجدران والآفاق والأعمدة، حتى الهواء شعرته يهتز يومها، ما أصعبه موت الفجأة، يا أمي!

كيف تركتِ حبيبتك هديل ابنة الـ(16) عامًا تحمل على كتفيها مصيبة فقدك ومسؤولية بيتك، كيف رحلتِ _يا أماه_ غير آبهةٍ بغصة القلب التي تنتزعني كلما سمعت فتاة في المدرسة تقول: "هذه أمها ميتة"، فأشعر بنقص وفراغ لا يعوضهما حنان العالم كله إلا سجدةً بين يدي الرحمن أشكو فيها بثي وحزني إلى الله، انسحبت ملامح الفرحة من وجهي وبتُّ أعاني انكسار الروح والفقدِ.

ذلك الشعور الدافئ ونحن نُعد طبق المقلوبة معًا، نصنع الأزر ونضع التوابل ونسكبه في إنائه وشرائح الليمون تزينه، لم أشعر يومًا أنه سيعزّ عليّ، وسيصبح في ذهني أغلى من قطعة ذهبية نادرة، وتلك الجلسة التي مازالت ترن بداخلي أصوات ضحكاتها، يوم أن فرغنا من الإفطار برمضان وجلسنا حولك نتبادل النكات وأنا أصورك بهاتفك المحمول، ذاك الهاتف الذي فقدته بالسوق بعد أربع سنوات، فكدتِ أفقد صوابي.

ليلة رحيلك التي قضيناها معًا لا يمكنني أن أنساها يا أمي، حين أخذنا ننسج الأحلام حول ما سنفعله لبكرك خالد حين يتزوج، قلتِ إنك ستقيمين له فرحًا أسطوريًّا، أنتِ التي طالما تمنيتِ أن تفرحي به، وقضينا السهرة نتخيل شكل العرس وفقراته، وظللتِ تحدثيني عن المفاجآت التي تأملين صنعها فيه، سافر خيالنا طويلًا قبل أن ندرك أنها الساعات الأخيرة.

لا تحزني يا حبيبة؛ فقد صنعتُ له فرحًا قبل بضعة شهور، حققتُ فيه أحلامك جميعها، ونفذتُ كل ما جال بخاطركِ ليلتها.

أختي شهد لم تعد تتذكر سوى شيء بسيط عن حضوركِ في حياتها، فاعذري صغر سنها التي لم تتجاوز تسع سنوات عندما غادرتنا، كسر غيابك روحها فلا أشعر أنها تتمتع بعمرها كالفتيات اللواتي يناظرنها، هناك شيء ما ينقص فرحتها بالحياة؛ فهي شاردةُ الذهن باستمرار، لكن أوردتها تضخ بالفرحة، إذا ما أخبرتُها كيف كانت أميرةً مُدللة كونها آخر عنقود البنات، وكيف كانت تجلس على ركبتيها بين قدميك لتُسرحي لها شعرها الذهبي بأناملك الرؤوف.

أما أحمد ذو السنوات الثلاثة يوم وفاتك فدائمًا ما يمطرني بالأسئلة القاتلة، وهو يقول: "كيف يبدو شكل أمي؟، هل كانت تشبهك؟، هل كانت تحبني؟، ماذا كانت تفعل لأجلي؟، أنتِ أمي يا هديل أليس كذلك؟"، أجيبه والروح تختنق: "أجل، أنا أمك الثانية"، وقلبي يتساءل: كيف أخذت دورك يا أمي؟!

وجدتي التي لم أرَ حماة تُحب كنتها كحبها لكِ يوم أن فقدت هاتفك كادت تجن مثلي، وهي تقول: "كيف حرمتنا رؤيتها؟!"، لقد كان الهاتف كنزًا يكتظ بصورك وتسجيلات صوتك، صوتك الروحاني الجميل الذي تتلين به آيات مطهرات في ليالي القيام بصلاة التراويح، تصلين بنا جماعةً ويخشع قلبك فتنهمر من عينيكِ الدموع، مشهد وصوت لا يمكن للزمن أن يمحيهما من مخيلتي مطلقًا.

بهجة الفرح غابت عنا في ليلة العمر حين تزوجت أنا وأختي هبة، لأنك _يا أمي_ لم تكوني إلى جانبنا ونحن نرتدي الفستان الأبيض، لم أفتح قلبي إلا لهبة بعدما تركتنا، إذ كان وقع الصدمة عليّ شديدًا، وبقيت ستِ سنوات لا أسمح لأحدٍ أن يتحدث معي في الأمر، لا أسمحُ لطيرٍ أن يخدش جرحي، ولو بكلمةٍ عابرة، لكن لا تقلقي من جديد بدأت أخبرهم عما بداخلي، وأصبحت أشعر بالراحة كلما تحدثت عنكِ أكثر، ومع أن الدموع تخالط الابتسامة ويغسل انسكابها وجهي يبقى اسمك يشرح القلب.

كل الوقت الفاصل من يوم غيابك حتى هذا اليوم هو سرابٌ وأيام غير محسوبة من عمري، فإن كان لي حياة فهي حياتي الوردية معكِ، مازلتُ أرى نور وجهك الملائكي كل مساء، ولا أغمض جفني قبل رؤيته، وقلبي الشهيد يتلو عليه آيات الحب والرحمة؛ فسلامٌ عليكِ يا جنة الدنيا.