لم يدُر بخلد كافل المملكة الشامية المملوكية قانصوه اليحياوي الظاهري أن تربته التي أنشأها بظاهر باب الأسباط قبل نحو ستمائة عام ليُدفن فيها أموات المدينة المقدسة أن هذه المقبرة ستجرّفها أنياب الجرافات، وتُنبَش القبور الرطبة الطريّة، وتُكسر العظام المحرّمة، ويُرفَع الرفات الذي يغذّي عروق الزيتون وظلال أشجار المقبرة القديمة من أجل إقامة حديقة ترفيهية تتدلى منها قطارات هوائيّة يتدحرج فيها أوغادٌ من الأحياء على حرمات الموتى الراقدين بأمان على تلك التلة التي يصل إليها الصاعدون من وادي النار "قدرون" عبر طريق فاصلة بين مقبرة باب الرحمة إلى الجنوب، ومقبرة باب الأسباط "اليوسفية" إلى الشمال قرب الجدار الشرقي لسور البلدة القديمة.
هذه المقبرة التي حمل اسمها وصفاً لا يعرف أحدٌ سبب إطلاقه تسمى المقبرة اليوسفية، وظنّ الناس أنها منسوبة لأشهر "يوسف" في تاريخ المدينة على عادة بعض الباحثين أو العامة في استسهال تفسير غوامض الأسماء، فجعلوا يوسف هو صلاح الدين الأيوبي يوسف بن شاذي الناصر المظفّر الكبير، وأغلب الظن أن "يوسف" اسم لشخص معلوم المكانة دينياً أو سياسيّاً دفِن في هذه التربة، ثم اندثر قبرُه مع قبور كثيرة تعاقب عليها المدفونون الذين تآكلت حروف شواهدهم وطُمست سواء في القبور الجماعية العائلية "الفستقيات" أو القبور الفردية؛ فهذه المقبرة ليست بمكانة مقبرة باب الرحمة التي يتنافس فيها المقدسيون لدفن أحبابهم بجوار صحابة مقدسيين نالوا شرف صحبة رسول الله في المدينة.
وتمنّيتُ على مجير الدين الحنبليّ الذي تفرّد بذكر مَنشأ التربة في كتابيه "الأنس الجليل" و"التاريخ المعتبر" أن يحكي لنا أكثر عنها، وإن كنّا نلحظ من كلامه أن فيها منزلاً نزل فيه قانصوه اليحياوي عند مروره بالقدس، وجعل في هذا الموضع تربة، وهي من المرافق الأساسية في المنشآت المملوكية، ولا أدري لماذا لم تسمّ هذه التربة باسمه، فهناك تربة أخرى قرب مقبرة الدحداح بدمشق ما تزال تحمل اسمه، ربما لأنه دُفِن فيها مع أفراد من عائلته.
هذه المقبرة عزيزة على المقدسيين، أودعوا فيها قلوبهم، واستأمنوا عليها أجساد أحبابهم، حتى أتى عليه جراد العصر باسم "سلطة الطبيعة" فكشفوا سترها، وأزالوا غطاءها، وقرروا بورقة أنّها تاريخ توراتيّ يحمل توقيعاً يهوديّاً ألْفِيّاً اشتمّوا رائحته المطمورة في جوف بحث آثاريّ مهووس.
هذه التربة المقدسيّة ضمّت رفاتاً طاهراً لنفر من الجيشين الأردنيّ والعراقيّ في حرب 1967، واحتفظ لهم الناس بشاهدٍ يخلّد ذكراهم، ويحكي قصة دفاعهم عن مدينة السماء...
وقبل أعوام من هذه الكارثة هجم الجراد على شمالي المقبرة ودمّروا العشرات من قبور الأردنيين ونصب الجندي المجهول، وصبّوا موضعها بالإسمنت لمنع الدفن فيها، واليوم كشفوا أكثر عن أغراضهم وهم يلبسون ثياباً كُتب عليها أنهم يستعيدون هوية المدينة "اليهودية"، وبات واضحاً أنهم يمنحون جراد المستوطنين المنتشر طريقاً مباشراً إلى المسجد الأقصى بعيداً عن أعين المقدسيين وأياديهم الرامية.
هذه المقبرة برزخ مقدسيّ يرتجّ المقدسيون بكاءً عندما يفقدون التواصل مع شواهد أحبابهم بفقدانه، وأما هؤلاء الجراد المنتشر فهم لا يرون في المكان سوى قطعة أرض كبيرة يلتهمون فيها أموال السياحة الدينية المزوّرة، ويرسمون معالم مدينة تخلو من تاريخها الحقيقي.