فلسطين أون لاين

المدافع العثمانية ومعركة غزة الأولى

...
الجيش العثماني خلال معركة غزة الثانية
هيام البيطار - باحثة فلسطينية في التاريخ والآثار

 

منعت العزلة التي كان فيها الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى من استبدال كامل للخسائر في سلاح المدفعية التي عاناها في حروب البلقان، كما انخفض مخزون القذائف المدفعية إلى مستويات منخفضة بشكل خطير؛ فقد كان على الجيوش العثمانية الميدانية أن تخوض معاركها دون استخدام مُكثف لنيران المدفعية التي كانت تعتمد عليها جيوش الدول العظمى الأخرى بشكل أساسي في عملياتها البرية.

ولسوء الحظ بالنسبة للإمبراطورية العثمانية، فقد استُهلكت تلك الأسلحة؛ التي تم شراؤها في حروب البلقان، وعندما جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، كان الجيش العثماني يعاني ثغرات كبيرة في ترسانته ولا سيما في المدافع الرشاشة والمدفعية الميدانية، إذ أغلقت كل من بلغاريا واليونان حدودهما مع الإمبراطورية العثمانية، وفرضت القوات البحرية الروسية والبريطانية والفرنسية حصارًا على التجارة البحرية العثمانية، كانت نتيجته انقطاع موردي الأسلحة الألمان عن تزويد الجيش العثماني بالأسلحة والمعدات.

وقد ساهم غزو الدولة العثمانية لصربيا في فتح طريق بري مباشر إلى ألمانيا، ما سهل وصول الدولة العثمانية إلى مصانع الأسلحة والذخائر الألمانية مرة ثانية، ومنذ ذلك الحين تلقى الجيش العثماني مساعدات عسكرية كبيرة من ألمانيا، لكن ذلك لم يكُن كافيًا أبدًا لإثبات النقص الأساسي في الأسلحة والمعدات والخسائر المستمرة مع استمرار الحرب.

فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان الجيش العثماني في غزة يستخدم المدافع الميدانية ذات الصناعة الألمانية؛ وكانت أكثر المدافع التي واجهتها القوات النيوزلندية العاملة تحت إمرة الجيش البريطاني.

كما استخدم العثمانيون الأسلحة الروسية والبريطانية التي كان يتم الاستيلاء عليها، وكانت هذه الأخيرة من عيار يختلف عن المدافع الألمانية (75 و77 ملم)، ويمكن استخدامها فقط في حين توافر مخزونات قذائف المدفعية التي تم الاستيلاء عليها إلى جانب مدافعها الخاصة بها.

الزحف إلى غزة

استخدمت القوات البرية العثمانية في غزة سلاح المدفعية لصد الهجوم الإنجليزي، إذ أصدرت وزارة الحرب البريطانية بداية عام 1917م، قرارًا باحتلال فلسطين، تحت قيادة السير "أرشيبالد موري"، والذي بدوره كلَّف اللفتانت جنرال "تشارلز دوبل"؛ وقد رسم خطة تقضي بالتقدم للأمام واحتلال وادي غزة، على أن يتم احتلال غزة نفسها في أواخر شهر آذار/ مارس 1917م.

وعلى إثر تلك الأنباء التي وصلت للجيش العثماني، جاء القائد العام (أنور باشا) من إسطنبول، وعقد مجلسًا حربيًّا للتشاور، خرج بنتيجة مفادها تأسيس خط للدفاع عن غزة ومنطقة تل الشريعة وبئر السبع، وإضافة كتيبة من المشاة وفرسان الجيش الرابع العثماني، وقد وصلت تلك الكتائب وهي مكونة من: فرقة الفرسان الثالثة، وكان معها ألفا رمح، والفرقة (16) للمشاة من الجيش الخامس، والفرقة (53)، وقد جاءت من حلب لغزة، فتألف من تلك الفرق الثلاث فيلق عُرف باسم (الفيلق العشرون)؛ وعدده ثلاثة وثلاثون ألفًا، بقيادة (فون قرس باشا)، إذ رابط نصفهم تقريبًا في خط الدفاع المتقدم ذكره بين غزة وبئر السبع.

ساهم مسار الأحداث المتواترة خلال الحرب في اندلاع مواجهات شرسة بين الجيشين العثماني والإنجليزي ففي 28 شباط/ فبراير1917م، احتل الإنجليز خانيونس، ومن هناك أخذوا يستعدون للزحف على غزة؛ التي حصنها الجيش العثماني تحصينًا كاملًا من ساحل غزة الغربي حتى تل المنطار شرقًا.

في تلك المعارك كان الجيش العثماني يستخدم أربع بطاريات من المدافع الثقيلة، وبطاريتين من مدافع الصحراء -المدافع الميدانية-، إضافة إلى ثماني بلوكات (متراليوز)، و(3500) بندقية، ذلك الموقف جعل من ضباط الجيش العثماني في حالة استنفار وانعقاد دائم لاجتماعات تشاورية، كانوا يرسمون فيها أحسن الخطط للدفاع عن غزة.

وفي 26/آذار مارس 1917م، أصدر الجنرال الإنجليزي (دوبل) أوامره بالزحف نحو غزة بقوة تعدادها (44.000) بين مشاة وفرسان، تمكنت من الوصول إلى تل المنطار واستمروا بالتقدم حتى وصلوا إلى كل من بيت حانون وجباليا شمالًا، في تلك الأثناء وصلت التعزيزات العسكرية للجيش العثماني إلى غزة، وكانت تتألف من فرقة المشاة السادسة عشرة، وفرقة الخيالة الثالثة، ما شكل ضغطًا على موقف الجيش الإنجليزي؛ الذي أصدر قائده الجنرال "شت وود"، أوامره بالانسحاب، وفي اليوم التالي حاول الإنجليز استكمال الهجوم على غزة مرة ثانية إلا أنهم فشلوا أمام قوة المدافع العثمانية وتكبدوا خسارة (2700) جندي قتيل، و(2932) جريحًا، أما الجيش العثماني فقد خسر (1500) جندي، وعُرفت هذه المعركة بالتاريخ باسم "معركة غزة الأولى".

بعد هزيمة الإنجليز وانتصار العثمانيين، كان هناك حافز لكل منهما لأن يزيد في حشد قواته البرية، فزاد العثمانيون الفرقتين السابعة والرابعة والخمسين، وأتوا بفرقة احتياط ثالثة، فأصبح تعداد الجيش العثماني في 19/نيسان -إبريل 1917م (30.000) جندي.

في خضم تلك الأحداث بدأ الهجوم الثاني على غزة بتاريخ 17/4/1917م، ونشب عراك شديد بين مشاة الجيشين، وفي 19/4/1917م، ظلت مدافع الإنجليز تقذف غزة بنيرانها من البحر من الساعة الخامسة صباحًا حتى الساعة الثامنة مساء، حتى أصابت تلك القنابل الجامع العمري الكبير وعدد كبير من المباني العامة والمنازل، واستمرت المشاة الإنجليزية بالتقدم فاحتلوا خطًّا ممتدًّا يمر بمنطقة الشيخ عجلين غرب غزة، لكن الفشل كان حليفهم بسبب طبيعة الأرض وقوة نيران المدافع العثمانية، وتكبد الإنجليز خلالها خسارة فادحة لـ(2085) جنديًّا قتيلًا، و(4359) جريحًا إضافة إلى عدد كبير من الأسرى، وعُرفت باسم (معركة غزة الثانية).

بعد الهزيمة التي أصابت الجيش الإنجليزي في غزة، أُسندت قيادة الجيش الإنجليزي كاملة للسير أدموند اللنبي؛ الذي أُعطي صلاحيات واسعة لرسم خطط شاملة لاحتلال غزة، وفي1/11/1917م، زحف الإنجليز نحو غزة بقيادة الفيلق الحادي والعشرين وألقوا قنابلهم على خطوط الدفاع التركية، وأخذوا يقذفون مدينة غزة، فأخذ الجيش العثماني يتجمع في حليقات ليقوم بحركة تعرضية للالتفاف حول الجناح الأيمن للجيش الإنجليزي، وقد استمرت المعارك بين الجيشين حتى 7/11/1917م، إذ احتل الإنجليز غزة، وأصاب غزة خراب كبير بسبب تلك المعارك التي دارت فيها وحولها، إذ ضُربت من قِبل الأسطول الإنجليزي بحرًا، ومن الجيش برًّا، حتى تهدم منها ما يزيد على ثلثها.

المصدر / فلسطين أون لاين