داخل محل الصياد محمد أبو حصيرة في حسبة السمك غرب مدينة غزة، يفرز العاملون أصنافًا عديدة من الأسماك كلٌّ على حدة، يضعونها في صناديق زرقاء مملوءة بالثلج المجروش، بعضها لضخها في السوق المحلي وأخرى لتسويقها في الضفة الغربية يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع؛ ما يثير تساؤلات عن دواعي ذلك في ظل الحاجة إلى تغطية احتياجات المواطنين بما ينعكس على أسعار البيع تحت وقع الضائقة الاقتصادية التي يعيشها القطاع.
يراقب أبو حصيرة وهو يجلس على كرسي بلاستيكي حركة الزبائن "الضعيفة" على الحسبة، يعرض أمامه أنواعًا وكميات متعددة من الأسماك وبأوزان مختلفة، من بينها أسماك الجرع، والجمبري، واللوقس، والغزلان، والسويسي، مليطا، وسلطعون البحر.
غالية الثمن
يقول أبو حصيرة: إن شركته سوقت الأسبوع الماضي ثلاثة أطنان من الأسماك، وهي واحدة من أربع شركات غزية تصدر الأسماك إلى الضفة، لكنه يؤكد أن هذه الكميات لا تؤثر في احتياجات السوق المحلي.
ويشير إلى أن الكمية التي تسوق تتم بـ"نسبة وتناسب" حسب ما يجود به البحر، وتؤدي وزارعة الزراعة دورًا رئيسًا في هذا الجانب.
ويوضح أن التصدير يتطلب من أصحاب الشركات السمكية إحضار إذن الوزارة، وقبل الحصول عليه يجب على الإدارة العامة للثروة السمكية تحديد الكمية المسموح بها بما لا يؤثر في السوق، فمثلا السردين، وهو النوع الشعبي الذي لا يسمح بتصديره إلا إذا كان فيه فائضًا.
وتُشغّل شركة أبو حصيرة 45 عاملًا يعتاشون من العمل البحري والتوزيع، وفي المحال والمطعم، في حين يقدر عدد الصيادين الذين يعملون بالتصدير فقط على القوارب الصغيرة بنحو 400 صياد، إضافة للقوارب الكبيرة.
يختصر رده على سؤال "فلسطين" إن أوقفت الجهات المختصة التسويق، بلهجة عامية: "بتكون جنيت على الصيادين، إحنا بالكاد نسدد مصاريف العمال والوقود (..) زمان كانت الأمور ماشية، وما كنا نسأل على التصدير".
صياد شاب –رفض الكشف عن اسمه– يعمل في الحسبة، بدا غاضًا وهو يعبر عن رفضه تصدير معظم الصيد البحري إلى أسواق الضفة، معللًا رفضه بأن ذلك يرفع السعر إلى الضعف وأحيانًا ضعفين في بعض الأنواع.
يقول: "سعر كيلو سمك الغزال اليوم عشرين شيقلا، وعندما يكون هناك سحب للتسويق يصبح سعره 40 شيقلا، وكذلك المليطا وغيرها، وعليه لا يستطيع المواطن في غزة شراءها".
ويعتقد الصياد ذاته أن سعر سمك سلطان إبراهيم الذي يباع في أسواق غزة بسعر 50 شيقلا للكيلو، سينخفض إلى 30 شيقلا إذا ما أوقف تصديره إلى أسواق الضفة.
وبينما كان الصياد يشخص واقع السوق، كانت الحاجة أم غسان منصور تتنقل بين محال بيع الأسماك داخل الحسبة، تحاول مفاصلة البائعين لشراء كيلو سمك "جربيدي" بالسعر ذاته الذي حصلت عليه قبل أسبوع، وقد فشلت في ذلك أمام تمترس البائعين عند سعرٍ موحد.
تقول: "اشتريته الأسبوع الماضي بـ 15 شيقلا، الآن بدهم بالكيلو 25 شيقلا مش راضيين يتنازلوا".
هل اشتريت جمبري قبل ذلك؟ تداهم الحاجة ابتسامة تهكم وهي تفرد ذراعيها: "مين قادر يقرب عليه.. الوضع معدوم"، وترى أن تصدير الأسماك يقلص فرصة المواطنين من أصحاب الدخل المحدود على بعض الأنواع، ويجعلها محددة بالمواطنين الذين يمتلكون قدرة شرائية مرتفعة.
لكن المختص في الشأن الاقتصادي د. معين رجب، ينظر إلى الأمر من زاوية مختلفة عما قاله الصياد والحاجة منصور، إذ يشدد على ضرورة أن يجد المستهلك السلعة بسعر مناسب، وفي الوقت نفسه مراعاة الصيادين الذين يبذلون جهدًا في صيد الأسماك من أجل تعويض المخاطر والمخاسر التي يواجهونها بفعل سيطرة الاحتلال على البحر، إلى جانب النفقات العالية للصيد".
سببان للتسويق
زكريا بكر مختص في شؤون الصيادين، يحدد سببين لتسويق الأسماك للضفة، الأول لرفع أسعار الأسماك، والثاني تعويضًا "ضئيلًا" للمحروقات، وتحقيقًا لهامش ربح معقول، منبهًا إلى أن الأصناف التي تُصدَّر لا يستطيع المواطن شراؤها.
ويبين بكر في حديثه لـ"فلسطين" أن هناك توازنًا بين تسويق الأسماك إلى الضفة وبين ما يترك لأسواق غزة، ويتوقف ذلك على الكميات التي تصطاد ووقت الصيد، فمثلًا الجمبري يبلغ سعره حاليًّا قرابة 50 شيقلا، وفي أربعينية الشتاء يصل إلى 140 شيقلًا.
ويعتقد أن التسويق يحرك العجلة الاقتصادية والمالية في قطاع غزة ويشغل المئات من الأيدي العاملة، ويحسن من الوضع المعيشي للصياد الذي لا يزيد دخله على 20 شيقلا يوميًا.
تحقيق مصلحة المهنة
المتحدث باسم وزارة الاقتصاد عبد الفتاح موسى، يقول إن الأسماك المصدرة هي من الأنواع غير الشعبية وبكميات محدودة متفق عليها بين لجنة مشتركة تضم وزارتي الاقتصاد والزراعة ومباحث التموين، مؤكدًا أن التسويق يحقق مصلحة للعاملين في القطاع البحري ويعينهم على تحسين أحوالهم المعيشية.
ويقول لصحيفة "فلسطين"، إن وزارته وضعت سياسة للتصدير بحيث يخصص فقط للأنواع مرتفعة الثمن مع توفير كميات منها للأسواق المحلية، أما الأنواع الشعبية مثل السردين، والسكمبلة، والبوري وغيرها فيسمح بتصديرها إذا توفرت كميات كبيرة منها تحقق الاكتفاء في السوق.
ويشدد على أن الضوابط والسياسات التي وضعتها الوزارة تراقب اللجنة المشتركة تنفيذها في السوق، "ولا تؤثر في سعر الأسماك في غزة".
بحسب معطيات صادرة عن مسؤولين بوزارة الزراعة، أنتج قطاع غزة العام الماضي نحو (4662) طناً من الأسماك، و(3650) طناً في عام 2019.
معايير ومحددات
مدير دائرة الخدمات في الإدارة العامة للثروة السمكية، جهاد صلاح يوضح أن هناك نظاما ومحددات لعملية التسويق في الضفة، فـ"الأسماك الاقتصادية" التي يزيد سعر الكيلو منها على 50 شيقلًا، "لو تركت في السوق المحلي فلن تكون بمتناول جميع المواطنين مهما تدنى سعرها".
ويشير صلاح لصحيفة "فلسطين" إلى أنه أُعطيت موافقة لتصدير كميات مفتوحة من الأنواع الاقتصادية، في حين لا تزيد نسبة تصدير الأنصاف الشعبية على 10% من الإنتاج في أفضل حالاته (100 كيلو لكل طن).
وبشأن آلية ضبط النسبة المعلنة، يوضح أن التجار المسوقين الأربعة يملؤون نموذجًا بالكميات المسموح بتسويقها قبل يوم من التصدير، حيث يعمل مندوبو وزارة الزراعة ومباحث التموين على تدقيق الكميات وفق النموذج.
هذه السياسة بنيت على مرتكزين، يقول: "بصفتنا مسؤولين عن قطاع الصيد واجبنا ومهمتنا تحقيق عائد مجدٍ للصياد، لذا يجب بيع بعض الأنواع بسعر مرتفع لتغطية نفقات الصيد وجبر الضرر، وواجب آخر بتوفير المنتج السمكي بسعر متعدل في سوق غزة".
يصطاد الصيادون 150 صنفًا من الأسماك، منها 15 صنفًا هي الأنواع الاقتصادية، بحسب صلاح.
ويبلغ معدل تسويق الأسماك للضفة، وفق إفادة المسؤول بالثروة السمكية، 10 أطنان أسبوعيًا منها 5-6 أطنان من سمك "الدنيس" التي تنتجها المزارع السمكية الاستثمارية في القطاع، مشيرًا إلى أن المزارع تصدر 60% من إنتاجها إلى الضفة وتبقى و40% لغزة.
أما إجمالي إنتاج الصيد البحري فيبلغ شهريًا قرابة 200-300 طن، يذهب 40 طنًا منها إلى الضفة منذ بدء إعادة سماح الاحتلال بتسويق الأسماك منذ ثلاث سنوات.
ويقول صلاح: "سبب سماح الوزارات المختصة بالتصدير، شكاوى الصيادين من الخسائر الكبيرة التي لا يستطيعون تعويضها وتهدد بتوقفهم عن العمل".
مزايا كبيرة
وبالعودة إلى الخبير الاقتصادي، يؤكد د. رجب أن تسويق الأسماك في الضفة لا يؤثر في السوق المحلي رغم حاجة غزة إلى كميات أكبر من المنتجة شهريا، إذ يُستورد السمك المجمد لتعويض الأصناف وتحقيق التوازن السوقي.
ويضيف رجب لصحيفة "فلسطين": "الأصل أننا في وطن واحد وضمن سوق واحد، ولكننا أمام حواجز وقيود إسرائيلية تحول دون تدفق السلعة لشطري الوطن، ما يجعل تسويق الأسماك كأننا أمام علاقة تجارية بين إقليمين، إضافة إلى ذلك لا يمكن لأي اقتصاد أن ينغلق على نفسه، وإلا سيترك الصيادون البحر إذا لم يعد عليهم بمنافع اقتصادية".