مفاوضات حثيثة تُجرى في الآونة الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني بوساطة مصرية، لإنجاز صفقة لإطلاق سراح أسرى فلسطينيين في السجون الصهيونية مقابل جنود صهاينة أسرى لدى كتائب القسام أُسروا في حرب "العصف المأكول" على غزة عام 2014. هذه المفاوضات لم تكن الأولى، فقد مرّت عشر سنوات على صفقة تبادل أطلقت عليها المقاومة اسم "وفاء الأحرار"، أرغمت فيها المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني على الإفراج عن 1027 أسيرا، مُقابل الإفراج عن الجندي الصهيوني جلعاد شاليط.
بدأت الحكاية قبل 15 عاماً، عندما نفّذَ مُجاهدون من كتائب القسام، وجيش الإسلام، وألوية الناصر صلاح الدين، عملية "الوهم المتبدد" صباح الأحد 25 يونيو 2006م شرق رفح، نجح خلالها المُجاهدون في أسر الجندي الصهيوني شاليط من داخل دبابته، وقُتل قائد الدبابة ومساعده، وأصيب 6 جنود آخرين بجراح، ودُمرت دبابة الميركافاة وناقلة جُند مصفحة وتضرر الموقع العسكري.
عملية عسكرية مُعقدة أذهلت قادة الكيان ووجهت لهم صفعة قاسية تركتهم يترنحون طوال الأعوام الخمسة، التي نجحت المُقاومة فيها في الاحتفاظ بالجندي المُختطف على قيد الحياة، وذلك يعود لجهود "وحدة الظل" التابعة لكتائب القسام التي يُسند إليها تأمين أسرى العدو.
في هذه العملية بددت المُقاومة وهماً صهيونياً في ثماني دقائق -هي مدة تنفيذ العملية-، ووجهت ضربات موجعة للكيان الذي لا يُقهر، بأسرها الجندي، حاول بعدها الاحتلال المماطلة في استعادته بالتفاوض مع المُقاوم الفلسطيني بوساطة مصرية، ومُحاولة إرغامه على القبول بشروطه، إلّا أن المفاوض الفلسطيني بقيادة القائد الشهيد أحمد الجعبري مُهندس صفقة وفاء الأحرار، شبح "إسرائيل"، ونائب القائد العام لكتائب القسام، الذي أدار المُفاوضات بكل حكمةٍ وعِناد، خاض فيها "معركة عقول" مع الكيان المُراوغ الذي استخدم كل الوسائل المُمكنة من أجل الحصول على معلومات عن الجُندي المأسور لفك أسره دون دفع أي ثمن، إلّا أن الجعبري أثبت عبقريته السياسية في التفاوض وإصراره الشديد على إخضاع الاحتلال لشروط المُقاومة، جدّفَ عكس التيار وأجبر الصهاينة على دفع أكبر ثمن في تاريخ كيانهم، فقد صرّح "بنيامين نتنياهو" رئيس وزراء كيانهم آنذاك بقوله إن الموافقة على الصفقة أصعب قرار اتخذه في حياته.
وبعد أقل من 3 أعوام على إنجاز الصفقة، والتي تمت في الثامن عشر من أكتوبر 2011م، تمكنت القسام مُجدداً من أسر أربعة ضباط وجنود صهاينة في حرب "العصف المأكول" عام 2014م منهم اثنان من وحدات النخبة "غفعاتي" و"غولاني"، لتبدأ فصول وفاء الأحرار الثانية، التي أعادت الأمل للأسرى الفلسطينيين الذين زاد عددهم في آخر إحصائية على 4850 أسيرا باتوا يترقبون حُريتهم القريبة.
الكيان لم يتخلَّ عن أسلوبه في التفاوض والمماطلة والمُساومة، ومُمارسة التضليل أمام جمهوره في مُحاولة لاستعادة جنوده دون ثمن، إضافة لربطه ملف الأسرى بملف إعمار غزة ورفع الحصار المفروض عليها مُنذ 14 عاماً، في حين يُصرّ المُفاوض الفلسطيني على عدم الإفراج عن أي معلومة تخص الجنود الأسرى دون مُقابل.
أكثر من 6 سنوات مرّت على أسر الجنود الصهاينة، وما زالت "وحدة الظل" قائمة بمهامها في تأمين الاحتفاظ بالجنود، ولا زال المُفاوض المُقاوم مُتمسكا بشروطه لإتمام الصفقة، ويرفض ربط ملف الأسرى بأي ملفات أخرى، في حين أن كل ما يتعلق بالمُفاوضات لا يزال حتى اللحظة مُجرد إشاعات تبثها وسائل إعلام عبرية دون الاستناد لحقائق ووقائع، لكن ما هو يقين ومُسلّم به أن هذه الصفقة ستتم قريباً، وسيتم تحرير الأسرى، وفقاً لما صرّحَ به الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" بعد حادثة الأسرى الستة الذين هربوا من سجن "جلبوع"، وتمكن الاحتلال من اعتقالهم مرة أخرى، خرج "أبو عبيدة" للإعلام ليُؤكد أن قضية الأسرى تقف على سُلّم أولويات المُقاومة، ووعدهم بالتحرير قريباً من فوق الأرض، والعدو الصهيوني يعي جيداً مدى مِصداقية وعود القسام، فقد صرّحَ "أبو عبيدة" خلال حرب "سيف القدس" أن قصف "تل أبيب" أسهل من شربة ماء، وتم القصف بكل دقة، وأيضاً أكدت "حماس" أن "الإفراج عن جنود الاحتلال المأسورين في قطاع غزة لن يكون له ثمن سوى الإفراج عن أسرانا من سجون الاحتلال، ولن يكون هناك ثمن آخر يُمكن أن تقبل به المُقاومة".
المُقاومة في غزة باتت قويّة في التهديد والتفاوض والمُناورة، وقادرة على فرض شروطها المُتمثلة بإصرارها على الإفراج عن الأسير عبد الله البرغوثي صاحب أطول حكم بالمؤبدات "67 مُؤبداً"، والقيادي في حركة "فتح" الأسير مروان البرغوثي، والقيادي في الجبهة الشعبية الأسير أحمد سعدات، والعديد من الأسماء من كل التنظيمات، وذوي المُؤبدات والأحكام العالية، وترفض التنازل أو الرضوخ لتعنت الاحتلال في فرض شروطه ووفق رُؤيته، فقد أثبتت المُقاومة في صفقة وفاء الأحرار أنها صاحبة النفس الأطول في المُراوغة والتفاوض.
ومما يبعث العِزّة والمجد والهيبة لهذه المُقاومة العتيدة الصلبة، تلبيتها للمناشدة التي أطلقها البرلمان العربي الذي يضم 22 دولة عربية لها جيوش ولها سيادة كاملة على أراضيها ومُقدراتها، بضم الأسرى الأردنيين في سجون الاحتلال الصهيوني البالغ عددهم 21 أسيرا في أي صفقة قادمة، وقد جاء رد "حماس" على المُناشدة بـ "أنّ صفقة تبادل الأسرى القادمة بين المُقاومة الفلسطينية والاحتلال "الإسرائيلي" ستكون صفقة شاملة، ولن تُميِّز بين الأسرى الفلسطينيين والعرب".
صفقة وفاء الأحرار كانت وطنية بامتياز، فقد شملت كل الفصائل الفلسطينية، وشملت كل الأراضي الفلسطينية المُحتلة عام 48، والضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، إضافة لأبناء أمتنا في الدول العربية، وما زال النهج الذي تسير عليه المُقاومة في التفاوض كما هو، بسياسة التفاوض والإصرار نفسها، والقول الفصل سيكون لها بإذن الله، فسلامٌ على أُمناء المُقاومة يوم أن ذلوا بعِزهم القسامي، وإيمانهم الراسخ، قوة الكيان الذي لا يُقهر، وسيكتمل الدرب بتحرير جميع الأسرى بعزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليل.