كانت عملية الوهم المتبدد التي اختُطف خلالها الجندي الصهيوني جلعاد شاليط، ردًّا عمليًّا على أولئك الذين زعموا أن فوز حماس في الانتخابات التشريعية قبل العملية بأشهر؛ سيقود الحركة إلى التخلي عن المقاومة، وأن الضغوط التي مورست عليها ستنجح في إحداث انهيارات متتالية في موقف الحركة السياسي الرافض للاعتراف بالاحتلال، فكان جواب الحركة السياسي والجماهيري قاطعًا من خلال مهرجاناتها التي أكد فيها قادتها أن لا اعتراف بالاحتلال، وكان الجواب العسكري عمليًّا بتلك العملية النوعية.
وأنا هنا لا أورد هذا الكلام لإثبات أن حماس لن تتخلى عن المقاومة، وإنما لأثبت من خلاله فكرة في غاية الأهمية لكل حركات التحرر، والشعوب المتطلعة لإنجاز أهدافها الاستراتيجية، وهي أن عدم الانصياع لإرادة الظالمين، ومواجهتها بكل قوة، وتصعيد ردة الفعل أمام سلوكهم العدواني، لا يعني أبدًا أنك ستنتهي وتزول، ربما تدفع ثمنًا باهظًا دون شك، ولكن من قال: إن الخضوع للظلمة والاستسلام لهم ليس له ثمن، بل إن قراءة التاريخ تؤكد أن ثمن المواجهة أقل من ثمن الاستسلام، فالعدو لا يقبل بأقل من زوالك في كل حال.
لكن ثمن المواجهة يقود قطعًا إلى زيادة قوة المقاومة، وهو ما حدث في تجربة حماس، فمقارنة بسيطة بين قوة حماس في 2006، وقوتها في 2021م، والمقارنة بين قدرات حماس في مواجهة عملية (أمطار الصيف) التي أطلقها الاحتلال ردًا على أسر شاليط، وردة فعلها في عملية (حارس الأسوار) كما سماها الاحتلال، أو سيف القدس وفق تسمية المقاومة، تلك المقارنة تثبت بوضوح أن ثمن المواجهة ليس جراحًا مؤلمة فحسب، بل قوة متصاعدة، ونموًّا لا يتوقف.
أما القناعة الثانية التي حطمتها صفقة وفاء الأحرار، فهي أن العدو قادر على كل شيء ويعرف كل شيء، وهو ما عبّر عنه رئيس وزراء العدو الصهيوني إيهود أولمرت لحظة اختطاف الجندي الصهيوني، عندما توعد بـ"استخدام وسائل بالغة الشدة" لاستعادة شاليط.
لكن كل الإجراءات التي قام بها، وعلى رأسها اختطاف عشرات من قادة حماس في الضفة، بينهم ثمانية وزراء في حكومة هنية، وتسعة وعشرون نائبًا عن الحركة، كل ذلك لم ينجح في إجبار حماس على تسليم الجندي الأسير، كما أن مخابرات العدو وتقنياته الأمنية لم تنجح في الكشف عن مكان الجندي طوال سنوات، ولم تنجح التهديدات كذلك في إطلاق سراحه، ولم يتحرر إلا بصفقة دفع فيها الاحتلال ثمنًا باهظًا من الأسرى أصحاب المؤبدات.
وأنا هنا لا أورد هذا الكلام لأثبت أن العدو عاجز وضعيف، فهو ليس كذلك بحال من الأحوال، وإنما لأؤكد أن أي فاعل سياسي يأخذ بأسباب الحذر، ويدرس تجارب الآخرين، ويتعلم من أخطائه، ويصر على غاياته وأهدافه، سيكون بإمكانه تطوير الأدوات الكفيلة بتجاوز كل ضغوط الاحتلال، وامتلاك كل ما يضمن له الصمود في وجهه.
ففي معركة سيف القدس لم تكن (إسرائيل) ضعيفة أبدًا -في بعض الجوانب على الأقل-، لكن المقاومة كانت قد طورت أدواتها لتكون قادرة على التكيف مع قدرات الاحتلال، فأنجزت إنجازات باهرة، ولنا أن نتخيل لو أن المقاومة في غزة، حاربت في سيف القدس كما تحارب الجيوش النظامية العادية، والمقصد من كل ما سبق أن بإمكان العقل المقاوم أن ينجح في تحويل ضعفه إلى قوة، وقوة العدو إلى ضعف، إذا ما تمتع بالإرادة والإصرار والحذر.
ومن القناعات المهمة التي رسختها الصفقة أن إيمان المقاوم الفلسطيني وآماله الواسعة ليست عبثًا، ولا حيلًا نفسية يتجاوز بها آلام اللحظة الراهنة، فكثير من الأسرى الذين تحرروا في صفقة وفاء الأحرار -إن لم يكن جميعهم-، كان لديهم اليقين حتى قبل اختطاف الجندي أنهم سيتحررون، وسيصنعون لأنفسهم مستقبلًا جميلًا تنتهي فيه كل أشكال معاناتهم، كان إيمانهم بذلك كبيرًا جدًّا، على حين كان يتصور كثيرون أن تلك أضغاث أحلام، ومن هو القادر على الضغط على الاحتلال وهزيمته، واختطاف جنوده، والاحتفاظ بهم -أو بأحدهم- لسنوات، لكن ذلك قد حدث فعلًا، وتحرر مئات الأسرى.
أولئك الذين شككوا من قبلُ في أحلام الأسرى يشككون اليوم في كل حلم من أحلام المقاومة ورجالها، ويرون العدو قويًا قاهرًا قادرًا، لكن سنة الله في كونه أنه لا يُصلح عمل المفسدين، وأنه قد يمن أحيانًا على المستضعفين ليجعل منهم أئمة، أو يجعلهم -سبحانه- من الوارثين.
تلك رسالة لمن يشكك اليوم في قدرة المقاومة على تحرير فلسطين، فقد يكون ذلك حلمًا بعيدًا اليوم، كما كان حلم أن يكون لدينا آلاف المقاومين المدربين في قطاع غزة في الثمانينات حلمًا بعيدًا، وكما كان حلم قصف تل أبيب في الانتفاضة الأولى بعيدًا، وكما كان حلم الانسحاب من غزة قبل أن يحدث بسنوات حلمًا بعيدًا، كل تلك الأحلام تحققت، رغم بُعدها في يوم من الأيام، فالأحلام كلها بدت في يوم من الأيام بعيدة جدًا ثم صارت حقائق لا تثير تعجب أحد.