فلسطين أون لاين

​وكان "التوجيهي" عام حزني وقوتي

...
رشا السوافيري
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

كان الوقت قد تجاوز الثانية ليلًا عندما قفزتُ من فراشي كمن لدغه عقرب في صحراء قاحلة، حاولت مرارًا العودة إلى نومي ولكن صورتكِ _يا أمي_ كانت تجول أمام ناظري، فما نهضتُ إلا اشتياقًا إلى معانقتكِ، وإن كنتِ على سرير المرض.

تمتمتُ بأدعيةٍ ترجو لك عودةً قريبة إلى مملكتكِ قبل حلول رمضان المُوشِك هلاله على البزوغ، ثم قلت في نفسي: "غدًا سأُضرب عن الدراسة، إن لم يسمح لي أبي بزيارتها، وسأحصل منه على موافقةٍ مسبقة للمبيت أسبوعًا كاملًا عندها فور تقديمي آخر امتحان بالثانوية العامة".

انزاح ظلام تلك الليلة بما حمل من أمنيات وصلوات، ومحاولات خائبة لمراجعة ما تبقى من منهاج التربية الإسلامية، فما كنت أترقب إلا الفجر كي أطلب زيارتك، وبعد أخذ وجذبٍ مع أبي أتيحت لي زيارة خاطفة إليكِ، ثم عدتُ إلى المنزل لاستكمال الدراسة؛ فيومان متبقيان لانطلاق الامتحانات وثلاثة أيام لـ(...).
جهزتُ نفسي في غضون دقائق، ثم وليتُ بقلبي شطر المشفى المقيمة أمي بداخله منذ نحو شهرين، وفي الطريق الذي بدا طويلًا لم أكن أنظر إلى أي شيء من حولي، فلقد خلت الأرصفة من البشر والشجر والحجر، وما رأيت إلا وجه أمي يقترب مني أكثر فأكثر.

- ما شاء الله، وجهك مثل القمر يا أمي، كيف حالك يا ست الحبايب؟، هيا اعترفي أنكِ تتدللين علينا.

- آهٍ من كلامك الحلو يا ابنتي، دعيكِ من الشقاوة وطميني عن استعدادك للتوجيهي.

- الحمد الله، الأمور تسير على ما يرام، لا ينقصني إلا دعواتك وعودتك معافاة إلى بيتنا.

- قولي يا رب، لكن عديني أن ترفعي رأسي كالعادة.

يا للأسف!، ذلك الحوار القصير لم يحدث قط، وكم تمنيتُ لو أنه دار بيني وبينها؛ فعند رؤيتي لأمي شعرت بحزن العالم ينقضَّ على روحي، كان وجهها مُصفرًَّا وعيناها زائغتين وجسدها الهزيل أنهكه "السرطان"، أما أنا فكنت أطرح السؤال تلو السؤال محدقة بعينيها، ولكن جوابها كان لا يأتي، حينها أتعرفون ماذا فعلت؟، أطبقتُ بكل ما أوتيتُ من حنانٍ على يديها، ربما كنت أودع أحب الناس إلى قلبي من حيث لا أدري، ثم طلب مني والدي المغادرة؛ فالفاجعة على وشك الوصول.

ألقيتُ بنفسي في أول سيارةٍ لتعيدني إلى البيت، كنت أشعر بما لا يمكن قوله، أن الحياة ليست الحياة التي أعرفها، لماذا يحدث هذا كله في الوقت الأكثر حرجًا في حياتي؟!، الناس يصفون "التوجيهي" بأنه سنة مصيرية، وهم لا يعرفون أني كنت أفكر في مصير أمي، حتى لم أكن أعرف بأي نفسيةٍ سأجلس أمام كل هذه الكتب؛ في كل صفحة يخرج وجه أمي: مرةً وهي تضع كوب الشاي مع شطيرة الجبن على مكتبي وتلح علي باستراحةٍ قصيرة، ومرة وهي تأمر أهل الدار _خاصة أختي الصغيرتين سلمى وزينة_ أن التزموا الهدوء "عشان أختكم توجيهي"، ومرةً وهي توقظني قبل الفجر كي أدرس، تلكزني بيدها الحبيبة فأطبع قبلةً عليها وأقول: "خليني أنام كمان شوي يا أمي"، ومرةً وهي تودعني عند الباب وتوصيني: "بتقري الأسئلة كويس وتخافيش".

في صبيحة الثامن والعشرين من شهر مايو من العام الماضي 2016م خرجتُ من بيتنا قاصدة قاعة اختبار "الدين"، إنه الامتحان الأول، ترددتُ في الاتصال بكِ، كنت بأشد الحاجة لسماع صوتك، خفتُ كثيرًا أن يصمت صوتك، لكنه بحمد الله جاء من بعيد يدغدغ روحي ويوصيني بالتوكل على الله.

مضى الامتحان الأول بسلام، ورحت أتجهز للامتحان التالي بعد الحصول على يوم استراحة كما المعتاد، في ذلك اليوم ازداد شوقي إليك فطلبت من أبي اصطحابي إلى المشفى، فرفض واكتفى بالطمأنات.

كانت طمأنات غير صادقة، تمامًا مثلما خدعتني شقيقاتي عندما أصررن على ذهابي إلى منزل شقيقتي "فلسطين" لاستكمال مراجعة منهاج "اللغة العربية"، تحت ذريعة رغبتهن بتجهيز البيت قبيل عودة أمي، وتحت الضغط ذهبت.

آه يا أمي!، أقولها كلما تذكرت اللحظة التي بلغنا بها الخبر، بعد أن تلقينا اتصال من أخي قائلًا بدمع العين: "ادعوا لها بالرحمة".

صعدت روحك إلى السماء، وكانوا جميعًا يودون كتم خبر رحيلك عني قدر المستطاع حفاظًا على معنوياتي، تمكنت من اللحاق بك في أثناء تغسيلكِ، قبلَّتُ وجنتيك الورديتين كثيرًا، وارتميت في حضنك للمرة الأخيرة.

أول ليلة بعد الفراق، ما أصعبها!، ففي صبيحتها خضعت لأصعب امتحانات الدهر وأنا ابنة الثامنة عشرة، قررت مخالفة كل الآراء وتوجهت إلى استكمال تحدي "التوجيهي"، أتعرفين لماذا يا أمي؟، لأني كنت متيقنة أن أفضل هدية أرسلها إلى روحك هي نجاحي، وهذا ما كان، حتى هذه اللحظة لا أعرف كيف أتتني القوة أن أفعلها، إنه مددٌ من الله الحنَّان الذي أمدني بالصبر والعزيمة حتى أحقق حلمك بدخولي كلية القانون، لقد نزعت ابنتك رداء الضعف واستعادت قوتها مع لوعة فراقك.

قبض الله روحك قبل رمضان بأيام معدودة لتقضي شهر الخير في عليين، يا لها من كرامةٍ يا أمي!، وخسارةٌ لنا أن يهل الهلال دون أن نتسابق إلى تقبيل يديك، ونتشارك معًا في إعداد مائدة الإفطار، لكن لا طعم لأي شيءٍ من بعدكِ، يا ست الكل.

أفتقد أصابعك التي طالما تشبثت بها في طريقنا إلى صلاة التراويح، كنت أمسك بها بطريقةٍ وكأنني أخاف أن تضيع إحدانا من الأخرى، أشتاق إلى مسابقاتك الرمضانية في ترتيل القرآن وتعلم أحكامه، وأشتاق إلى كلمة "كل شي حاضر لعيونك" حين أطلب منكِ حتى لبن العصفور.

أمي، أنا سعيدة عندما أقول أمام الملأ: إني ابنة "نوال"، ومن شدة حبي للنون والواو والألف واللام سأبحث عن عقد يُزين عنقي، ليس لأنه من ذهب أو فضة، بل لأن اسمكِ الحبيب منقوشٌ عليه، وإني نادمةٌ أني لم أهدِ إليكِ مثله في واحدٍ من عشرات الأعياد التي كنتِ فيها معنا.