بعد مرور خمسين عامًا على أطول احتلال في التاريخ الحديث، أو كما وصفه بعض الدبلوماسيين بالاحتلال الأطول في تاريخ الأمم المتحدة، وبعد حوالي سبعين عامًا على النكبة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، هناك خمسة استنتاجات لا بد من توضيحها:
الاستنتاج الأول، أنه رغم العدوان الإسرائيلي الشرس، وهزيمة الجيوش العربية، صمد الشعب الفلسطيني في وجه هذا الاحتلال، وأصر على البقاء على أرضه، مستلهمًا الحكمة من تجربة التهجير القاسية عام 1948، وبصموده فإنه صنع أهم إنجاز حققه حتى الآن، بخلق وجود ديموغرافي مقاوم ألحق الفشل بالمشروع الصهيوني الذي كان هدفه ترحيل السكان الفلسطينيين لإحلال اليهود الإسرائيليين مكانهم كما جرى في معظم أراضي الـ48 من قبل.
ولا شك أنها مفارقة تاريخية أن يولد هذا الإنجاز الإنساني من رحم الهزيمة العسكرية، ولولاه لنجحت إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية.
الاستنتاج الثاني، أن كل حكومات (إسرائيل) من يسارها إلى يمينها لم ولا تريد (السلام)، بل أرادت احتلال كل فلسطين ونشر الاستيطان الاستعماري والذي تشاركت في إنشائه وتوسيعه كل حكومات (إسرائيل) بغض النظر عن طبيعة الحزب الحاكم أو رئيسه. ولا فرق هنا بين جولدا مائير أو رابين أو بيرس أو بيغن أو نتنياهو أو شارون. كلهم عملوا لنفس الهدف، وجميعهم عارضوا وحاربوا حق الفلسطينيين في الحرية، وعملوا على منع قيام دولة فلسطينية مستقلة وحقيقية.
الاستنتاج الثالث، أنه لا سبيل لدى الشعب الفلسطيني سوى تغيير ميزان القوى لصالحه، وأن مفاوضات تجري دون تغيير ميزان القوى هي دعوة للاستسلام، ولن تكون نتيجتها سوى أن تستخدم غطاءً للتوسع الاستيطاني، وتجارب المفاوضات خلال ستة وعشرين عاما خير دليل على ذلك.
الاستنتاج الرابع، أن ما نواجهه كشعب فلسطيني غير مسبوق في التاريخ الحديث، فنحن نواجه نظام قمع معقد وأربع عمليات متداخلة في نفس الوقت:
أولًا: التطهير العرقي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني عام 48.
ثانيًا: الاستعمار الإحلالي الاستيطاني بمحاولة تهجير الفلسطينيين ووضع المستوطنين الإسرائيليين مكانهم.
ثالثًا: الاحتلال الأطول في التاريخ البشري الحديث.
رابعًا: تحول هذا الاحتلال إلى منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية والتي تمس كل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
الاستنتاج الخامس، أن شعب فلسطين طوال هذه السنوات من الاحتلال لم يرضخ ولم يستسلم وقاوم هذا الظلم الاحتلالي والاستيطاني، وما زال يقاومه وسيبقى يقاومه ويصر على حقوقه، بما في ذلك حق العودة للاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها.
وخلال خمسين عامًا خاضت (إسرائيل) عشر حروب وواجهت ثلاث انتفاضات فلسطينية.
وهي تواجه اليوم كفاحًا متواصلًا يمزج بين المقاومة الشعبية وحركة المقاطعة وفرض العقوبات على (إسرائيل).
وبعد أن غدا عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين يبدو أن المشروع الصهيوني يراوح مكانه إن لم يكن يتراجع للوراء، رغم كل الجبروت العسكري والاقتصادي لـ(إسرائيل)، ورغم الدعم الأميركي اللامحدود لها.
ويبدو جليا كذلك أن قتل فكرة الدولة الفلسطينية بالاستيطان أو بالاتفاقيات الجائرة، لن يلغي معضلة أن البديل الوحيد لذلك سيكون الدولة الديموقراطية الواحدة التي يتساوى فيها الناس بالحقوق المدنية والقومية.
ومحاولة تكريس نظام الأبارتهايد لن تؤدي إلا إلى الاقتراب أكثر من حل الدولة الواحدة، ما دام الشعب الفلسطيني يرفض الرضوخ لمنظومة التمييز العنصري.
المهم، أن لا يسمح بتكرار خداع مماثل لاتفاق أوسلو الذي تميز بأخطاء أربعة فادحة تمثلت أولًا في الاعتراف بـ(اسرائيل) دون الاعتراف بفلسطين دولة ذات سيادة.
وثانيًا: الاعتراف بـ(إسرائيل) دون تحديد حدودها.
وثالثًا: أنه كان مجرد اتفاق جزئي انتقالي دون تحديد النتيجة النهائية فأصبح المؤقت دائمًا.
ورابعًا: أن توقيعه تم مع إيقاف الانتفاضة الشعبية، ودون وقف الاستيطان الاسرائيلي أو الإفراج عن كافة الأسرى في سجون الاحتلال.
هناك حديث نبوي شريف يجدر بنا كفلسطينيين الاقتداء به: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فلا مكان لمفاوضات واتفاقيات مماثلة لما فشل، والحق أقدح الأضرار بالشعب الفلسطيني.
والمثل القائل "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فقبول أي وصف لأي جزء من أجزاء حركة التحرر الوطني الفلسطينية "بالإرهاب" سيعني وصمها جميعها عاجلًا أو آجلًا بهذه الصفة، وفي تجربة الانتفاضة الثانية أكبر دليل على ذلك.
كما أن القبول بالتعاطي مع تهمة "التحريض" الكاذبة " سيعني أن كل دعوة للحرية أو الاستقلال او العدالة ستوسم بصفة التحريض.
وأكبر المحرمات كان وسيبقى المس بحقوق الأسرى والأسيرات الذين يمثلون أنبل مكونات شعبنا الفلسطيني.
ولن ينجح الاحتلال الإسرائيلي في إضعاف نقاط قوتنا ما لم نمس نحن بها.