تجد كثيرًا من الناس في خضم نقاش موضوعي عن الأسباب والمسببات التي أدت إلى كوارث اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية بما كسبت أيدي الناس، تجد من يجيد الهرب فيختزل المسألة في أن هذه هي إرادة الله وإرادة الله لا محالة نافذة، عندها لو قلت أي شيء فسيتهمك بأنك تعترض على إرادة الله والويل لك حينها. وكأن إرادة الله تكون حيث يكون الفشل والإخفاق جاهزة لتبريره وتمريره على الناس.
ويجري مثلا الحديث عن إمكانات المواجهة والاشتباك مع المحتل فيهرب سريعا إلى قوله تعالى: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" لا تجري خلف أوهام ما يسمى مقاومة، أعداؤنا ومن خلفهم وما يملكون من قدرات عسكرية هائلة لا يمكن أن تواجه بهذه الإمكانات التي لا تذكر أمام إمكاناتهم.
ونجد باب الهرب دائما مفتوحا وجاهزا على الدوام، يعلق الأمر على شطر آية أو حديث أو أحيانا مثل شعبي ويولي هاربا، وتجد هذا الباب جاهزا في كل الميادين وليس فقط الميدان السياسي، فعندما مثلا تناقش قصة زواج فاشل وأسباب هذا الفشل يهرب سريعا ويعلق الأمر على النصيب وتصريف الله للأمور وكأن الإنسان واختياراته لا علاقة له في الأمر.
ونجد باب الهرب هذا أيضا جاهزا عندما نناقش الهزيمة وأسبابها ومسبباتها ووقوع الناس بمصائب تجرها عليهم الهزيمة، نجد من يتحدث عن سنة الابتلاء وأصحاب الأخدود الذين أضرمت فيهم النيران لثباتهم على إيمانهم، فمهما يصيبنا هو أمر طبيعي لا مناص منه وهو سنة الحياة تجري على الذين يختارون طريق الحق، فالمصيبة واقعة لا محالة على أهل الحق وليس عليهم إلا أن يصبروا ويتحملوا ويرضوا بقضاء الله فيهم!
ونجد باب الهرب مفتوحا عند من تثبت له أمرا بقوة الدليل والمنطق والحجة والبرهان ثم يصعقك بقوله تعالى: "عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم"، يعني أن كل إثباتاتك هذه عسى أن يجعل الله الخير في عكسها فدعك منها.
ونجد باب الهرب مفتوحا على مصراعيه في حوادث السلامة العامة وحوادث الطرق: على طول يرفع لواء الآية: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". أذكر أن متسببًا في حادث كان يقود سيارة غير مرخصة ولا يحمل تأمينا وكان يقود السيارة بسرعة جنونية ثم وجدت من يرجع الأمر للقضاء والقدر، وعلما فيما بعد أن هذا السائق يتعاطى الحشيشة.
وفي موضوع الفقر نجد باب الهرب والأدلة على فضل الفقراء على الأغنياء وفضل حياة الكفاف وينسون أن رسول الله كان يستعيذ بالله من الفقر وهو القائل اليد العليا خير من اليد السفلى والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وهكذا نُغيب التفكير الموضوعي العلمي السببي ونجيد الهروب متعلقين بفهم ديني خاطئ أو خارج من سياقه أو يجري الانتقاء من النصوص ما يلائم تفكيرنا ثم نلوي عنقه ليتطابق تماما مع ما نريد، هذه جريمة في حق النص الديني وفي حق الفهم الصحيح للنصوص الدينية المتكالمة والتي يجب أن توضع في سياقاتها الصحيحة.
ومن المعروف أن الدين الإسلامي لا مشكلة معه لأنه أرسى قواعد التفكير العلمي وقواعد التفكير الموضوعي السببي دون أن تبغي على الإيمانيات التي تشكل الجبهة المعنوية الداخلية. ودون أن نذهب في الغيب بعيدًا عن موضوعية التفكير وعلميته وعمليته، نفكر بطلاقة دون أن يقيدنا الغيب ونؤمن بالغيب إيمانا عميقا يشرح صدورنا ويطمن قلوبنا فيساعد هذا في استقراء الأمور بنفسية قوية تستوفي القراءة الموضوعية والعلمية بكل تفاصيلها التي تفضي إلى النتائج الصائبة في الحياة، لهذا قال الحسن البصري: أحسن العمل: أصوبه وأخلصه. صوابية لا تلغي الحالة الايمانية العميقة في النفس، وحالة إيمانية لا تلغي أبدا ما يفضي اليه التفكير العملي والموضوعي. ولا داعي أبدًا لبوابات الهرب التي نجيد فتحها عندما تضيق بنا السبل.