فلسطين أون لاين

​هل رأيتني وأنا أشرب الماء خِفية؟

...
غزة - نجلاء السكافي

"كيف أبدو يا أمي؟" سألتكِ ببراءةٍ بعد أن تناولتُ دبوسًا صغيرًا وثَبتُّ شالتك البيضاء ووضعتها في منتصف شعري ثم أسدلتها إلى الخلف، وبعدها صعدتُ فوق كرسي حتى أطول المرآة وأرى وجهي كاملًا، وبِـــخفيةٍ تسلّلت أصابعي إلى "أحمر الشفاه" وعيناكِ الجميلتان تسترقان النظر إليّ، كم خجلتُ حين وضعتِ يدك على شفتيكِ حتى لا أرى ضحكتكِ، وما إن انتهيتُ من عرض الأزياء هذا تقدمتُ نحوكِ خطوتين كعروس في أثناء زفتها وأنا أتخيل الزهور تتناثر فوق رأسي من كل مكان، لا أنسى يا أمي حين حملتِني بين ذراعيكِ وأنت ترددين: "يا رب أشوفها أحلى عروس، بنتي الحلوة مَيسم".

أتعرفين متى تذكرتُ هذا الموقف؟، حين دعتني جامعتكِ التي تخرجت فيها إلى المنصة، وشاء الله ألا يُنادى اسمكِ، وألا ترفرفين بشهادتك بين زميلاتك، وألا نصفَّق لك بحرارة على وقع أغنية: "أنا مش مصدق حلم الليالي خلاص تحقق"، ارتجف قلبي حين قال مقدم الحفل يومها: "الشهيدة أماني أبو جزر فقدت كل أفراد عائلتها في الحرب، ولم يتبقى سوى ابنتها الصغيرة ميسم الزهراء، لتتفضل لتسلم درع التكريم".

أينما حللتِ _يا أمي_ نثرتِ عطركِ الفواح، حتى غدوتِ ملكة المحبة والحنان، كنتِ دائمًا مشغولة البال بهموم الآخرين، ولا يهدأ لكِ جفن حتى ترين كل أحبتك بخيرٍ وسلام.

امرأة ملائكيةُ القلب مثلك كيف اغتالوا زنبقة شبابها؟!، وطفلة مثلي لم تكمل سنواتها الأربع لماذا تكمل حياتها بلا أم؟!

في الحرب الأخيرة عام 2014م كان لرفح نصيبها الوافي من الوجع، وكان لي ثلاثة أرباعه باستشهاد أمي وأخي فراس وأختي ماريا، وأصيب أبي إصابة بالغة، يا وسيم الروح يا أبتِ، كيف حرموكِ المشي معي صباحًا في أرجاء حارتنا لنستمتع بدفء الشمس كما اعتدنا كل صباح؟!

كانت ليلة الثالث من أغسطس، ولا أدري _يا أمي_ كيف كان حدسك صادقًا إلى هذا الحد، وصممتِ ليلتها أن أبيت في بيتِ عمي، هل كان قدري الذي أصرّ علي؟، لم يكن من عادة أبي الموافقة على مبيتي، لكنه بعد توسلاتي وبكائي ووساطاتك استجاب لي، وغادرتم أنتم زيارة العيد، وبقيتُ أتسامر مع أبناء عمي، غير مدركة أنه الوداع الأخير.

ليتني أعرف ماذا فعلتِ ليلتها يا أمي، بعد ساعة ربما مكثت على سجادة الصلاة وأنت تسبحين وترتلين، وفراس وماريا نائمان على مقربة منكِ، وأبي يغالبه النعاس والقلق معًا في ليلة جديدة من الحرب.

حين نزلت الصواريخ الثلاثة من طائرة (إف 16) كنت أنا نائمة وأنتم شهداء، أما أبي حين أدرك طبيعة الاستهداف أخذ صوته يعلو مُكبِّرًا متهجدًا إلى أن غاب عن الوعي أيامًا متواصلة.

لا أُخفيكِ سرًّا يا أمي أن مشهد إصابته كانت فاجعته أشدّ على نفسي عندما زرته في المشفى، شعرت بالخوف والغربة حينها؛ ألم يكفيهم أن ترحلي أنتِ وأخواي؟!، مع من سألعب وأتشاجر بعد اليوم؟!، كيف ظنوا أن قلبي الصغير سيحتمل رؤيته مبتور القدمين يسير على كرسي متحرك؟!، لكن أبي سرعان ما بدأ يدنيني منه يلاعبني والضحكة لا تفارق محياه حتى اقتربت شيئًا فشيئًا.

أيامٌ معدودة وسافر هو إلى مصر لاستكمال مجريات العلاج، وبقيت أنا في كنف بيت جدي، لاسيما خالتي دعاء التي لم تبعد عينيها عني، أنام بين يديها وتسرح شعري بأناملها، توظب ملابسي ونختار معًا ألوانها المتناسقة، وعندما بدأتُ الدراسة ذهبتُ بصحبتها إلى الروضة وكانت توقظني باكرًا وتعد لي وجبة الفطور، وتأتي من حينٍ إلى آخر تطمئن على دراستي من معلمتي، وترسل إلي القبلات وأنا جالسة بين أقراني في الفصل.

حدث الكثير بعد رحيلك يا أمي، أولًا خالتي دعاء رقيقة القلب تخرَّجت في الجامعة التي ضاقت عليها ذرعًا بعد استشهادك، كيف لا وهي التي كانت تستأنس بكِ في البيت والجامعة؟!، فكنتما صديقتين متلازمتين دائمًا تتشاركان في الأعباء المنزلية والأجواء الدراسية، وتعدان وجبتي السحور والفطور معًا في شهر الصيام.

أتعرفين ماذا فعلت خالتي دعاء يا أمي؟، لقد آثرت على نفسها ووافقت على الزواج من أبي، لتصبح لي أمًّا وخالة في الوقت نفسه.

منذ شهور قليلة أنجبت لنا "ماريا"، لقد أصررتُ على أن يعود اسم "أختي ماريا" من جديد، رأيت تعبها في الحمل وألمها عند الولادة، لكنها أخبرتني أن حملكِ بي كان أشد إيلامًا وصعوبة عليكِ، وقضيتِ شهوره على المحاليل، ومع ذلك أحببتني جدًّا لأني كنت بِكر صغارك، ولذا كنت تهمسين لأبي قائلةً: "دير بالك على ميسم ولا تفرط بها"، أتراكِ كنتِ تدركين أني سأبقى دونكم وحدي؟

هل تذكرين كيف كنتُ فاتنة الجمال وأنا في الرابعة من عمري، أرتدي ملابس الصلاة في رمضان ونذهب معًا لصلاة التراويح؟، اليوم أذهب مع "ماما دعاء" وأسمعها تدعو إليكِ ونحن ساجدتان فأكرر دعاءها، أحاول تقليدهم في الصيام، لكني سرعان ما أعطش نهارًا، فأشرب خِفية دون علمهم، هل رأيتني يا ترى؟، أَوَتظنين _يا أمي_ أنهم يعرفون؟

أعرف جيدًا أن مكانك الآن في جنة تجري من تحتها الأنهار، وأخي وأختي عصفوران جميلان يغردان حولك، تلك الجنة أرسمها وألونها بدفتري، فقد أصبحت أُجيد الرسم والغناء أيضًا، كفانوسي الجميل الذي أحضره أبي لنشغله بعد الإفطار أنا وماما دعاء، فيغني: "افرحوا يا بنات يلا وهِيصوا ... رمضان أهو نوَّر فوانيسه"، وأقول سرًّا: "رمضان كريم، يا أحلى أم".