يُصنف التعليم المهني بالقياس إلى التعليم الأكاديمي بـ"ابن الجارية"، الذي لا تقيم له الوزارات المعنية الاعتبارات اللازمة التي يستحقها، علماً أن الدول الأكثر تقدماً منذ عصور الثورات الصناعية والتكنولوجية والنانو تكنولوجية، وصولاً إلى تجربة النمور الآسيوية، وضعت هذا التعليم في موقع الأولوية لديها، باعتباره العمود الفقري للنهضة الصناعية على مختلف مستوياتها بما فيها الزراعة. فقد ولَّى منذ عقود وقرون الزمن الذي كانت فيه المهارات تكتسب بالخبرة، وليس بالعلم في المعاهد والكليات المتخصصة.
ذاق التعليم المهني مرارة مضاعفة خلال أزمة وباء كورونا والحجر وتعطل العام الدراسي، بالنظر إلى الخصائص التي يمتاز بها، إذ لم يعد معها التعليم هنا تعليماً مدرسياً أو صفياً منذ عقود. فقد بات جزء رئيسي من المنهاج يعتمد على العمل المعملي أو المؤسساتي بالأصح. فطالبة قسم التربية لا يمكن لها أن تتخرج من دون ممارسة صفية في المدارس، والممرضة مثلاً تحتل زياراتها وساعات متابعتها في المستشفيات والمراكز الصحية حيزاً رئيسياً من علاماتها النهائية، وكذلك المتخصصون في التكنولوجيا الصناعية والتغذية والفندقية والزراعة والبيطرة والنجارة و... قس على ذلك.
وهو أسلوب في التعليم المزدوج الصفي والحقلي أو الميداني على حد سواء. هذا قبل إنجاز الشهادة المهنية المتوسطة أو الثانوية أو العالية. بالطبع يعتبر مقتل للتعليم المهني الاعتماد على دروس يتم حفظها من دون الدخول إلى المشغل الخاص أو الميدان المباشر، لتحصيل وممارسة ترجمة المعرفة الدقيقة في ميدان الاختصاص.
ولا شك أن كل قطاعات الانتاج تقريباً قد توقفت عن العمل خلال الجائحة، وما تبقى منها في ميدان الإنتاج خضعت عملية ارتيادها والمتابعة فيها لشروط قاسية، هذا إذا افترضنا عدم حظر التجوّل وتوافر وسائل المواصلات والمواكبة من جانب أساتذة المادة لطلابهم.
الميزة التي يتمتع بها طلاب العلوم المهنية تنبع من أن علاقتهم مباشرة مع التكنولوجيا والأجهزة الرقمية عالية التقنية، وهي ميزة يختلفون فيها عن أقرانهم من طلاب العلوم الأكاديمية. لكن هذه الميزة، في ظل غياب الضبط المؤسساتي والإداري والتعليمي، باتت إلى حد ما تعادل الفوضى، خصوصاً عندما يفتقد التلميذ والطالب شعور الاستقرار والدافع الشخصي والدعم الأسري والمؤسساتي. يشكو أساتذة مواد تعليمية مهنية على درجة بالغة من الأهمية من تراجع اهتمام طلابهم في التعلم عن بُعد.
وعندما فرضت المدارس في الأسابيع الأخيرة من العام الدراسي الحضور، ظهر وكأنهم قادمون من كوكب آخر، ما يدلل على نقص حاد في استيعاب المواد التي جرى بثها على الفضاء السيبراني.
يجب أن نعطف ذلك كله على ما شهده العام السابق من تقطع وانقطاع دراسي، ما يعني أن المهارات الصفية والمعملية، التي يجب على الطالب أن يتمتع بها تمهيداً لترفيعه إلى صفوف أعلى، كانت غير متحققة بالأصل. وعند الدخول إلى الامتحانات، وجد الطلاب أنفسهم في غربة عن المواد التي شرحها أساتذتهم ولم يستوعبوها.
وهكذا ذهبت جهود الأخيرين أدراج الرياح. وكلما ابتعدنا عن العواصم والمدن الرئيسية، كانت الكوارث أكثر تعميماً. ما يعني أن وزارات ودوائر التعليم المهني يتوجب عليها أن تفكر على نحو مختلف مما هو سائد، من أن الامتحان يضمن تقييماً فعلياً لمهارات وكفاءات الطلاب الذين عادوا من العام الدراسي الذي عبر بـ"خفّي حنين".