القبض على أسيري الحرية، أيهم كممجي ومناضل انفيعات، ليس نهاية الحدث. ولا داعي لشعور الخيبة المبالغ فيه أن يستحوذ علينا، وبغض النظر عما ستكشفه الأيام القادمة من ملابسات القبض عليهم داخل الأراضي، التي من المفروض أن تكون تحت سلطة أوسلو.
هذا الحدث لم يكن عملية مطاردة بين شرطة دولة عادية ومجرمين، بل إنه جزء من صراع متواصل يخوضه شعبٌ يتعرض لغزو وسرقة واستعمار وتهويد وحصار، ولجرائم مروعة ضد الإنسانية على مدار اللحظة، على يد حركة استعمارية كولونيالية "فرّخت" دولة هجينة، وباتت تتصرف كإمبراطورية تتوسع في المنطقة العربية، وتواصل الاعتداء على شعوبها، والانخراط في النظام الدولي الذي يقمع الشعوب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، عبر بيع الأسلحة، وتكنولوجيا المراقبة والملاحقة المتطورة.
لقد دخلت عملية التحرر الأسطورية التي قادها ستة من أسرى الحرية الفلسطينيين، في أعماق الوعي الفلسطيني الجمعي، كما أبهرت أحرار العالم، وعززت حركة التضامن العالمية.
فقد كشفت هذه العملية، أولا؛ حجم العذاب والحرمان الذي يتعرض له آلاف المعتقلين الفلسطينيين وذويهم، والحاجة لتوجيه الاهتمام الدائم إلى معاناتهم وإلى حاجتهم في التحرر.
ثانيا؛ أحدثت صدعا جديدا في صورة المنظومة الأمنية الصهيونية. كما أنها، والأكثر أهمية، أحدثت تآكلا آخر في صورة (إسرائيل)، كدولة استعمارية عدوانية تواصل الدوس على حقوق الإنسان وتحدي القانون الدولي، والهروب من العقاب.
لقد جاءت عملية التحرر من أكثر باستيلات الاستعمار الصهيوني، تحصينا وحراسة، بعد أقل من ثلاثة أشهر لحدث كبير اجتاح فلسطين من البحر إلى النهر، وهزّ المنطقة، وأسر خيال الشعوب العربية، وشعوب العالم، هو انتفاضة الأمل والكرامة ومعركة سيف القدس.
قبل ذلك ومنذ زمن طويل، لم تشهد ساحة الصراع ضد الصهيونية، أحداثا تولّد وحدة شعبية جارفة، ويفجر الطاقات العملية والمعنوية، لدى الفرد الفلسطيني، مثلما فعلت انتفاضة الأمل والكرامة، وعملية الهروب من السجن.
والمفارقة أن التأثير المعنوي الشامل الذي أحدثته عملية اختراق السجن، كان ثمرة جهد ستة أفراد فقط، وليس شعبا بأكمله، كما كان الحال خلال انتفاضة الأمل والكرامة، التي باتت تعرف أيضا بانتفاضة الوحدة، تعبيرا عن الوحدة الشعبية الوطنية الشاملة التي جسدتها هذه الانتفاضة، رغم الانقسام الداخلي المدمر.
صحيح أن الانتفاضة الأخيرة، لم تنه الاحتلال ولم تفكك مستوطنة واحدة، أو جدارا عنصريا واحدا، كما أن عملية الهروب انتهت بالقبص على الأبطال الستة. كما أن الأحداث الأخيرة لم تكبد المستعمر خسائر بشرية.
ولكن لماذا اهتز الكيان الصهيوني وارتبكت قياداته من هذين الحدثين الكبيرين؟ السبب أن شعبنا يذكر العدو بأن سيادته الحالية على فلسطين، ستظل تحت علامة سؤال، وكذلك نظامه الاستعماري القمعي، وأنه لن يهدأ بال لشعبنا قبل تحقيق العدالة. ولأن نظام التجزئة والفصل بين تجمعات الشعب الفلسطيني، كوسيلة سيطرة وإخضاع ونهب، وتفتيت الوعي الجمعي، على الأقل على المستوى الشعبي، سقط، مما يؤسس لبنية تحتية للمقاومة الشعبية، آخذة في الترسخ في الوعي وفي الميدان، ومن خارج الهياكل القيادية فاقدة التمثيل والشرعية.
وبطبيعة الحال، كانت سلطة أوسلو، في أثناء هذين الحدثين، في حالة ارتباك، مهمشة، معزولة عما يجري، وهي في قرارة نفسها لا ترغب في ظهور مقاومة شعبية حقيقية، حتى غير مسلحة؛ لأن ذلك يحرجها ويفضح دور الوكيل المتمسكة به، ولا تتمنى حصول أي نجاح، ولو رمزي، لهذه الأحداث؛ لأن ذلك يناقض ما تدعيه من أن نهج الوشاية، والمفاوضات، السبيل الوحيد لإقامة كيان فلسطيني هزيل، على أقل من خمس فلسطين.
لم ولن تنتهي مفاعيل هذين الحدثين، حتى وإن كان الجانب المشهدي، أو الميداني تراجع، فالمقاومة عملية مستمرة، بأشكال متنوعة، وبوتائر متفاوتة، تخضع للظروف، ولرجاحة عقل أصحاب الفعل.
نعم لنغضب وألا نتوقف عن الغضب، ولكن لا تحزنوا، ولا تندبوا، رغم أن هناك ألف سبب للحزن والبكاء. طالما هناك ظلم، وظلم فادح، هناك مقاومة، وشغف للحياة الحرة الكريمة، طالما أننا ننتمي لشعب فيه أبطال يصنعون المفاجآت ويحيون الأمل دائما بفجر جديد.