لا يكاد يخلو مجتمع ما من المشاكل والتناحر والخلافات, فطباع الناس تختلف وحظوظ النفوس تتفاوت وأطماعهم كذلك. ولا تكاد مشكلة تنفصل عن هذه الأصول والأسباب. وبمجرد حدوث أي إشكال ينبري أهل "الإصلاح" للحيلولة دون تفاقم المشاكل لأن وحدة المجتمع وانسجام الناس مطلب أساس لتحقيق تآلف المجتمع ووحدته. لذا -وفور حدوث أي إشكال- تبدأ المساعي لرأب الصدع و"التوفيق" بين الخصوم قدر الإمكان ولا يخلو الأمر -عادة- من دعوة إلى تنازل أحد الفريقين لإحداث تسوية من شأنها إعادة المياه إلى مجاريها, والحياة إلى سابق عهدها.
لكن السؤال الملحّ: لماذا يلجأ المصلحون دائمًا إلى الطرف الأضعف ويستحسنون التنازل ويطلبونه منه تحت غطاء "إذا عـزّ أخوك فهن"، و"اقسم العرب عربين" و"نص عليك ونص عليه" و"وبات مغلوب ولا تبات غالب" و"العفو عند المقدرة" وسط اقتباسات يتم توجيهها إثباتًا لخنوع الطرف الأضعف لصالح الطرف القوي. بدليل أن هذه الاقتباسات لا يتم توجيهها للقوي أبداً, بل للضعيف لاستدرار عاطفته واستعجال الحل قدر الإمكان, كونه "مش قـد فلان وعلّان" ومتعذرين أن الخير في الصلح, وأن إطالة زمن الخلاف مجلبة لمزيد من الشرور والأحقاد, مع أن طول الزمن أو قصره لا يحرمان صاحب الحق حقه أبدا.
هذه الاقتباسات والنقول من الآيات والأحاديث والأمثال تفقد قيمتها إذا لم يكن استحضارها في معرض تجريم المجرم وإرجاع الحقوق.
ثم كيف يتم تفسير "التغاضي" عن أخطاء طرف ما وتهوينها إن كان من أهل الهيئات أو الرياسات, وتضخيم مثل هذا الخطأ وكيله بمكاييل عند طرف آخر لا قوة تؤازره ولا ولي ينصره, فينشأ حينها مفهوم "الطبطبة" ثقافة نشاز تنخر في تماسك المجتمع ووحدته.
وثالثة الأثافي عندما يتبنى رجال الإصلاح -في كثير من الأحيان- رواية القوي ويضعونها أصلا مفضلا للتفاهم, خشية من بأس القوي, ورغبة في أن يظهر المصلحون أمام العامة بجدوى مباحثاتهم وإنجازهم في السعي بين الخصوم.
ثم إن الحديث عن "العفـو" باعتباره بضاعة "المفلس" إساءة واضحة لهذا المفهوم. فالعفـو مفهوم عـزيز يُذكر في مقام الاقتدار لا العجـز, خلاف ما يستعمل في عادات الناس الآن للأسف.
جهود الإصلاح بهذا الشكل ضائعة لا تؤسس لحل منصفٍ دائم, إذ –غالبا- ما تندلع المشاكل من جديد بين الخصوم, وكأنه ما سعى أحد بينهم بإصلاح, وتبقى الأحقاد والضغائن تحتقن في النفوس إذا لم تضمن سعايات المصلحين الحقوق وتصونها في المشاورات والمداولات بين الخصوم, وأن لا يقتصر دورهم على "حجز الشـر" وإطفاء نار الاقتتال.
فالنية المسبقة في الإصلاح بشروطه الشرعية والقانونية الحقة الناجعة هي أساس كل شيء, مصداقًا لقوله تعالى: "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما" أخذاً بالاعتبار أن المراد بالضمير في "يريدا" هم المصلحين.
ثم إنه لا إصلاح دون إرجاع الحقوق لأصحابها, وإلا فلا.