كثيرة هي الأحداث المؤلمة التي وقعت في شهر أيلول، وربما خص أيلول الشعب الفلسطيني بحظٍ وافر من عتماته، كان أكثرها حلكة توقيع اتفاق أوسلو " الكارثة" في الثالث عشر منه، ولكن من بين عتمات أيلول الكثيرة أشرق نور ساطع في يوم الثامن والعشرين من الشهر ذاته، حينما اشتعلت انتفاضة الأقصى التي غسلت عار أوسلو وأعادت للشعب الفلسطيني نفسه المقاوم وقضت على أحلام العدو في تدجين الشعب الفلسطيني وخلق جيل فلسطيني يقبل بالعيش كضيف في أرضه، وكأن أيلول يعتذر لشعبنا عن عتماته الكثيرة بهذا اليوم المشرق المجيد.
بالأمس حاول لبيد أن يجعل من أيلول مرة أخرى شهرًا مظلمًا على الشعب الفلسطيني بعد اجتماعه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، محاولاً تسويق خطته التي اتفق عليها مع كل من وزير خارجيته وشريكه في المنصب يائير ليبيد ووزير حربه غانتس، وهي "هدوء مقابل اقتصاد"، وكان قد سبق لغانتس أن جلس مع الرئيس عباس محاولاً تمرير بعضاً من بنود الخطة عبر السلطة الفلسطينية.
يحاول العدو من خلال خطته هذه أن يقايض طعام غزة بكرامتها، ويبدو أن العدو نسى أن غزة حرة، والحرة لا تأكل بثدييها، ولكن الحرة تأكل بعزتها وأنفتها وكبريائها.
غزة من حقها أن تكسر قيودها وأن يعيش شعبها كما باقي شعوب الأرض، وهي تنتزع حقها بأنيابها وأظافرها، ولكنها لا تقبل أبداً أن يكون ثمن حقها في حياة كريمة أن تتخلى أو تتنازل عن حقها في الوطن أو التفريط في ثوابتها، ولذلك حينما يحاول بينت أن يفرض على غزة معادلته ظاناً أن بعضاً من رغد العيش قد ينسى غزة ثوابتها، أو أن يُوجِد لغزة بعضاً من الإنجازات التي تستحق الخشية عليها فيدفعها ذلك لغض الطرف عن مقاومة الاحتلال، فهذا وهم يقع فيه بينت كما وقع فيه أسلافه من قبل.
يحاول الثلاثي بينت وغانتس وليبيد أن يجعلوا من خطة "هدوء مقابل اقتصاد" عامل تماسك للحكومة الهشة المتناقضة التي جمعتهم على غير ميثاق أو برنامج سياسي، اللهم إلا إسقاط نتنياهو ذلك الخصم العنيد الذي لم يكن في وراد حساباته أن يغادر المسرح السياسي على الأقل في الأفق المنظور، الأمر الذي عطل طموحاتهم السياسية ودفعهم إلى تشكيل هذه الحكومة الهجينة بلا برنامج سياسي، حيث لا يقبل رئيس هذه الحكومة أن يتقدم في مسار السلام الذي يفضي إلى دولة فلسطينية، وهذا ما أغلق الأفق السياسي أمام الرئيس أبو مازن، رغم محاولات نفخ الروح في جسد السلطة الفلسطينية عقب حرب سيف القدس من الإدارة الامريكية، التي أعلنت بشكل واضح عن دعمها لحل الدولتين وأكد على ذلك الرئيس بايدن في أكثر من مناسبة، وفي هذا السياق أرسل مبعوثه هادي عمر للمنطقة وأوعز إلى كل من مصر والأردن بضرورة إنعاش واقع السلطة التي وصفها هادي عمر بالغابة الجافة، وهي الخيار الأمثل لسلب إنجازات المعركة لصالح الطرف الأضعف الذي يقبل بكل شيء دون أن يحصل على أي شيء. ولذلك يحاول بينت من خلال خطته أن يناور الإدارة الأمريكية التي تضغط باتجاه التقدم في "مسار السلام" الذي يرفضه، لكن لم يعد بمقدوره أن يناور أكثر، لذلك تراه يحاول تسويق مبادرة فاشلة عسى أن يمد في عمر حكومته بعضاً من الأسابيع والشهور وهو يعلم تماماً أنها متفككة لا ريب عند أول هزة تتعرض لها، سواء أكانت هذه الهزة حربًا في إحدى الجبهتين أو انسحاب عنصر واحد من ائتلافه الحكومي الغير متجانس وهو أمر متوقع الحدوث في كل لحظة.
الشعب الفلسطيني أفشل خططاً كثيرة للالتفاف على حقوقه الوطنية المشروعة، وكان آخرها صفقة القرن التي تولى كبرها نتنياهو وترامب وبعض من العرب، وهم أشد قوة وأكثر مكراً من بينت وفريقه، لذا نقول بكل ثقة أن خطة بنت ستفشل كسابقاتها، ولكن المطلوب الآن فلسطينياً لكي توأد خطة بنت في مهدها، أن يستجيب أبو مازن للمطلب الجماهيري والفصائلي بالذهاب للانتخابات لاختيار قيادة واحدة للشعب الفلسطيني معززة بدعم شعبي وفصائلي، تستطيع أن تقدم للعالم برنامجاً سياسياً على أسس وطنية جامعة، وبدون ذلك ستبقى المبادرة في يد العدو الصهيوني الذي يحاول بين الفينة والأخرى فرض حلول وخطط على شعبنا لا تلبي الحد الأدنى من طموحاته.