ستة عشر عاماً انقضت على خروج الصهاينة المحتلين من قطاع غزة العزة والصمود، متطهراً من آخر جندي صهيوني ومن معظم المستوطنات الإحدى والعشرين التي كان يعج بها عشرات الآلاف من جِراء المستوطنين الصهاينة وقطعانهم منذ احتلالهم ذلك الشريط الفلسطيني الساحلي الأشمّ في نكسة حزيران عام 1967م ، وهو الشريط المسمى قطاع غزة الذي يَعمُرُه قرابة مليوني فلسطيني ويعد الأكثر كثافة سكانية في العالم ولا تتجاوز مساحته الثلاثمائة وستين كيلومتراً مربعاً.
وأربعة عشر عاماً طوالاً انقضت ولمّا تزل من الحصار الهمجي المفروض من الأعداء وبعض ذوي القربى -على أهلنا الصامدين المرابطين الصابرين فيه صبر أيوب وهم يعضّون على الجرح وأصبعهم على زناد العز والمقاومة-.
وفوق رؤوسهم الشامخة أفقٌ رحب وسماءٌ تتراقص في فضائهما آلاف النجوم وهي تزف إلى العلياء أرواح أربعة آلاف وثلاثمائة واثنين وخمسين شهيداً من أهلنا وأبنائنا وبناتنا وأطفالنا وشيبنا وشبابنا الغزيين الأطهار الأبرار الذين سَفَحت دماءَهم الطاهرةَ ترسانةُ الحروب الهمجية الأربع العمياء التي شنها شذاذ الآفاق الصهاينة ضد شعبنا المرابط الصامد صمود الجبال في هذا القطاع الأشمّ على امتداد الحروب الهمجية المسعورة الأربع الأخيرة وما رافقها من تضحيات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين الأبرار وشلالات الدماء التي نزفت من جراحات أكثر من عشرين ألف جريح غزي روّت تراب فلسطين التي تعرف أبناءها فانبعث طائر الفينيق وانتصر لها من تحت الرماد بل من تحت الأرض الملتهبة في معجزة "نفق جلبوع" الخارقة وأبطالها الستة المردة ليُشهر النفق مخرزاً يفقأ أعين كل أساطين الاحتلال وقادته الجبناء ويقهر جيشه الذي لا يُقهر، ويبصق في وجه كل منسق أمني أشر (على الرغم من النبأ المؤلم الذي ورد للتو حول إلقاء الاحتلال القبض على عدد منهم نتيجة وشاية من عميل مارق)، وليبعث رسالة شديدة الوضوح أن هذا الاحتلال الذي شهد أفول كل ما سبقه من احتلالات وإمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس -لكنها دَرَسَتْ وزالت-، لن يكون مصيره أحسن حالاً من كل ما سبقه من احتلالات وغزاة، وأن مصيره إلى زوال، ولن يفلح كل ما يراكمه حوله من تراسانات عسكرية في مواجهة إرادة شعب أثبت قدرته على صنع المعجزات وشل كل طاقات الاحتلال وأذرعه وأدواته وأرجله الخشبية، ولم تفلح أربع حروب مسعورة وأربعة عشر عاما عجافا من الحصار الهمجي في ثني إرادة ولو طفلٍ غزي واحد عن صلابة تمسكه بالمقاومة دفاعا عن نفسه وعن أهله وشعبه ووطنه وقدسه وتاريخه.
لقد غاب عن بال هذا الاحتلال العنصري المتغطرس وعن كل قادته المسعورين المتمترسين بحال الوضع العربي الراهن وهوان الأنظمة وردتها وتبعيتها دون أن يقرؤوا التاريخ قديمه وحديثه وحتمية مآلاته ومتغيراته الإقليمية والدولية ومستجداته ومفاجآته وطبيعة قواه ذات نهار لا ريب فيه ، ودون أن يلقوا نظرة على كل من وما سبقهم من غزوات وغازين لفلسطين وشعبها عبر التاريخ ودون أن تخدعهم سحابات الحاضر العابرة وعتمة غيومه السوداء وزيف (السوليفان اللمّاع ) المطبعين والمنسقين الأمنيين معه والضاربين على دفه.
كما غاب عن بال هذا الكيان الاحتلالي الغاصب مآل عشرات الغزوات والغزاة الذين لفظتهم فلسطين ونضالات شعبها، ولم يفلح كل عُتاتهم في النيل منها عبر كل القرون السالفة، بدءاً من محاولة الروم إخضاعها لبيزنطة أواسط القرن السابع الميلادي إبان مولد السيد المسيح عليه السلام، حين دخل يزيد بن أبي سفيان غزة وانتصر عَمْرو بن العاص على الروم في معركة أجنادين ودخل بيسان واللد ويافا.
وغاب عن باله أيضاً انتصار خالد بن الوليد في معركة اليرموك الخالدة وساد الطولونيون والقرامطة والإخشيديون والسلاجقة والفاطميون حتى القرن الحادي عشر الميلادي.
كما غابت عن ذاكرة الطارئين الصهاينة وقائع اندحار رُعاة أجدادهم الصليبيين الذين دامت سيطرتهم على فلسطين لقرنين من الزمن منذ عام 1099م حين قهرهم وأخرجهم منها في معركة حطين عام 1187م.
لقد ظن الاحتلال أن طغيانه وهمجيته وترسانته العسكرية وحاضنته في الإدارات الأمريكية المتعاقبة وأدواته من منسقين أمنيين ومطبّعين متصهينين وكل حساباته اليائسة قادرة على تحقيق أطماعه في تثبيت احتلاله لفلسطين، دون أن يتعظ من كل عبر التاريخ.
وعلى الرغم من مهانة الوضع العربي القائم وما يعتريه من تبعيات وارتهان وردّة وتشرذم وحصار همجي يُمليه الأعداء وأولو القربى على أهلنا الصامدين في القطاع الأبي ويحظرون عليه التزود بالماء والغذاء والدواء وحتى الهواء، إلا أنه اجترح المعجزات وما زال يفعل، مؤكداً حتمية قدرة الشعوب عبر كل مفاصل التاريخ قديمه وحديثه على صناعة ذلك التاريخ، وما الثورة الفيتنامية والكوبية والجزائرية والفرنسية والصينية والتونسية والأفغانية إلا أمثلة حية على حتمية الانتصار على أعتى القوى مهما عظمت سطوتها.
واليوم ها هو شعبنا الصامد يؤكد اليوم وكل يوم قدرته على الصمود وعلى اجتراح المعجزات.
وتلك هي نيازك معركة "سيف القدس" بالأمس القريب، ما زالت شُهبها تلوح في الآفاق وتبعث بأكثر من رسالة لكل المحتلين مُنذرة إياهم بالرحيل الحتمي، ومبشرة لكل أهلنا في كل فلسطين وخارجها بالنصر الذي لا رادّ له إن عاجلاً أو آجلا.