قصة هرب ستة أسرى فلسطينيين من السجن على ما فيها من بطولة وعظمة وإعجاز هي في نهاية المطاف قصة إرادة الحق التي صاولت إرادة الباطل فغلبتها، رغم الفارق الهائل بين ما تملكه الإرادتان من قوى مادية، فالقوى المادية في هذه المعركة حيدت تمامًا إلى درجة أنها أصبحت تساوي لا شيء، واعتمدت معركة الأسرى الستة أساسًا على القوى الروحية، تلك القوى التي ارتفع منسوبها لديهم لتتحول إلى طاقة ليس للعقل البشري قدرة على إدراك مدى عظمتها وجبروتها.
إذ إن العقل البشري يقيس الأمور ويحكم عليها بمنطق المادة التي هي المكون المحسوس للوجود الذي نعيش فيه، ولذلك لو حكم العقل البشري في خطة الأسرى الستة وقايس ووازن بين أدواتهم ومقدراتهم وأدوات الاحتلال ومقدراته؛ لأصدر حكمه الحاسم بفشلها وعدم (عقلانيتها)، وذلك أن العقل لا يحكم إلا بمنطق قوة المادة، ولا سبيل له للحكم بمنطق قوة الروح، فهو لا يدرك كنهها.
وربما تعد قصص الهروب من السجون من أكثر ما يلهم النفوس البشرية ويحفزها لتخطي حواجز المادة الضيقة، والانطلاق إلى رحابة قوى الروح التي لا حدود لها، ولذلك كانت قصص الهروب من السجن مادة حاضرة على دفاتر كتاب الرواية والدراما العالمية، وأُنتجت أفلام عدة تتحدث عن بطولات أسرى أو مسجونين ظلمًا تحدوا المستحيل وهربوا إلى فضاءات الحرية التي حلموا بها، فكانت الحقيقة الساطعة الخارجة عن إطار المألوف في تفكير العقل البشري، فلا يملك إلا أن يسلم بها بعد سبق إنكار.
قرأت خلال اليومين الماضيين عن سجن جلبوع، ذلك السجن الذي بني على عين الأمن الصهيوني ليحطم إرادة المقاوم الفلسطيني، وتعجبت من شدة إجراءات الأمن هناك التي كتب عنها معتقلون سابقون ذاقوا مرارة المكوث في هذا السجن البغيض، وعرفت منهم ماذا يعني مصطلح "سجاف" لدى السجان الصهيوني، وكيف يفرضون على من ابتلي من المعتقلين بهذا التوصيف ظروف معيشة ليست فقط غير إنسانية، بل إنها ظروف تهدف إلى وضع الأسير في حالة موت وجودي دون الموت الإكلينيكي، وهذا أصعب ما يمكن للإنسان أن يمر به في حياته.
قرأنا في التاريخ عن سجون وسجانين، وعن بطولات وتضحيات، وعن ألم ومعاناة، واستجمعت الذاكرة كل ما مر بها وهي تتابع ما جرى مع الأبطال الستة الذين نحتوا الصخر، فتخلدت ذكراهم في تاريخ شعبنا كما تخلدت ذكرى وصور التماثيل الفرعونية التي نحتت من الصخر لتتحدى عوامل الفناء فانتصرت عليها، وبقيت شاخصة عبر الزمن تنقل رسالة شموخها بين الأجيال المتعاقبة.
قصة الأسرى الستة ليست قصة إرادة تحدت السجان وانتصرت فقط، بل إنها قصة الوطن الفلسطيني الذي كلما أرادوا له أن يضيع ويندثر، جاء من يغرس جذوره أكثر وأكثر في عمق أعماق الأرض ليزهر بطولة وحبًّا وكرامة وانتصارًا في نفوس أطفالنا وشبابنا ورجالنا ونسائنا.
الأبطال الستة أرسلوا للقيادة الفلسطينية رسالة غاية في الوضوح، مفادها أن الذي حفر الصخر وشق جدار الأمن الصهيوني قادر على أن يحفر صخر الانقسام ويشق جدار الكراهية، الأبطال الستة قالوا لنا جميعًا إن نفقًا في الصخر بطول خمسة وعشرين مترًا حفر بملعقة أطول آلاف المرات وأشد ظلمة من نفق الانقسام الذي لم نصل إلى ضوء نهايته بعد، وليس ذلك إلا لعدم إدراك قيادة شعبنا عظمة من تقود.
النفق الذي حفر في سجن جلبوع قد حفر نفقًا آخر في وعينا جميعًا الفلسطينيين، فتح أعيننا على حقيقة أن فلسطين ليست أبعد من مسافة خمسة وعشرين مترًا في الصخر، إذا ما قررنا أن نحفرها، ولكن حتى اللحظة هناك من فقد الإرادة، وهانت لديه العزيمة، وأغشت على عينيه الدعاية الصهيونية، وأذهبت عقله امتيازات السلطة الذليلة تحت الاحتلال.
فالشعب الذي ينجب مثل الأبطال الستة هو شعب يستحق قيادة لها بالحدود الدنيا الإرادة، والعزيمة، والقوة، والصبر، والجلد، ذاتها.
نفق الحرية لا بد أن يكون قد هز وعي كل هؤلاء وأيقظهم من غفلة طالت، وأكد لهم حقيقة غيبت، أن النصر قاب قوسين أو أدنى.