من عاداتي ألا أرد على طارق الليل، ولكن إلحاح الهاتف، ورنين جرس الباب الخارجي، أجبراني على الرد!
قال أحدهم: تفضل معنا لدقائق! ولا تقلق، سنريك شيئًا مهمًا.
رغم حذري، وعدم معرفتي بهم، فقد أغراني الفضول إلى مرافقتهم، ولا سيما أنني قد وثقت بحديثهم، ولم تجزع نفسي من لثامهم رعبًا.
لم يعطِني الرجل الذي رافقني فرصة استبدال ثيابي، وما أن صعدت معهم سيارة الجيب حتى أسدل الستائر، لقد توجست بعض الريبة، وأنا لا أدري أين أنا؟ ولكن الصوت ذاته قال لي: لا تقلق. ولم أقلق حين توقفت سيارة الجيب، وفتح الباب، وقال لي: تفضل.
نزلت حذرًا برجلي اليمني، ويا للعجب، أين أنا؟ ما هذا؟ أظن أنني تحت الأرض، أنا أمام مصانع للسلاح، وأرى مخازن على مدى البصر؛ قذائف من كل الأنواع والأحجام، ومضادات، وبنادق، وألغام، ومدافع، وصواريخ يصل مداها إلى تل أبيب؛ كما قال المحلل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرنوت" "أليكس فيشمان".
تساءلت: من أنتم؟ وكيف حصلتم على هذه المصانع؟ من أين لكم كل هذا السلاح، من أين لكم المال الذي جلب هذا السلاح؟ وكيف أوصلتموه رغم الحصار؟
قال أحدهم: تقدّم، وتفقد المكان جيدًا، انظر في كل اتجاه، راقب، ووثق في ذاكرتك دون تصوير.
المكان يذكرني بولاية فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية قبل عشر سنوات، حين نزلت من سيارة أحد الأقارب العاملين في الخارجية الأمريكية، فإذا بي تحت الأرض عدة طوابق، وبمساحة عشرات الدونمات، تستخدم موقفًا لآلاف السيارات، أنا أقف اليوم أمام التصميم الهندسي نفسه.
تساءلت: من أوحى لكم بهذا؟ كيف أبدعتم هذا؟ كيف أقمتم عدة طوابق تحت الأرض لتخزين السلاح، والمعدات؟ كيف أنشأتم هذه المدينة المترامية، من أين لكم الإسمنت، والحديد، والخبرة الهندسية، كيف أنجزتم عملًا بهذا الحجم، وبهذه السرية، وبهذه السرعة، من أنتم؟
قال: اصعد السيارة، لنكمل الجولة، نحن أصحاب أقدس قضية على وجه الأرض.
السيارة تتحرك تحت الأرض، في مكان لا أعرف أين هو، السيارة تمر عن مخازن لمولدات الكهرباء، وعن مخازن لأنابيب المياه بكل الأحجام، تكاد تغطي أرض فلسطين، والسيارة تمر عن مبانٍ تحت الأرض يتعلم فيها الشباب فنون القتال، وينامون داخل الغرف مطمئنين.
السيارة تمر عن ساحات تدريب تحت الأرض، وتمر عن رجال يركبون "التكتوك" في شوارع تحت الأرض، الإنارة فيها أفضل منها فوق الأرض، شبكة الصرف الصحي تحت الأرض أنظم منها فوق الأرض، أنابيب المياه، وخطوط الهاتف، وسلاسة الحركة، والتدريب، والتنقل، ونقل المعدات، وتخزين العبوات، والوقود، والأخشاب، والحديد، والألمنيوم، والمطاط، والبلاستك، والقصدير والبارود!
فما هذا العالم الممتد المتواصل الذي يعج بالحياة؟ من أنتم؟ ألا تخشون الهجوم (الإسرائيلي)، ألا تخافون الانفجار؟ ألا تخافون التشريك؟
الجواب في كل الأحوال، وعلى كل سؤال: نحن أصحاب أقدس قضية، فلا تقلق.
قلت: سأكتب، سأصف كل الذي أرى: قال: لا مشكلة لدينا، قل ما تعرف.
ورغم أنهم لم يفصحوا عن هويتهم، إلا أنني تأكدت أنهم من رجال المقاومة الفلسطينية، وأنهم يعدّون أنفسهم ليوم لا يجزي فيه والد عن ولده شيئًا، ويرتبون أنفسهم ليوم المواجهة الخطير، وأثق أنهم واثقون من الانتصار الكبير.
كتبت هذا المقال قبل 11 عامًا بتاريخ 23/10/2010، قبل معركة حجارة السجيل 2012، وقبل حرب العصف المأكول سنة 2014، وقد جاءت نتائج المعارك مع العدو لتؤكد ما ذهبت إليه في مقالي، وهنا أتقدم بالشكر لشبكة فلسطين للحوار التي لما تزل تحتفظ بالمقال على موقعها.
وأنا أعاود نشر المقال في هذه الأيام، أضيف هاتين الفقرتين:
الأولى: ذلك التصور الخيالي كان قبل 11 عاماً، وأثبت اقترابه من الواقع، اليوم أجزم أن للمقاومة قدرة على تحرير أجزاء هامة من الأرض الفلسطينية المغتصبة سنة 1948، رغم وجود الجدار الإلكتروني!
الثانية: ضمن هذه التصور الخيالي لحال المقاومة في قطاع غزة، طاف ذهني على واقع الضفة الغربية، ترى؛ لو أغمضت السلطة الفلسطينية عينيها قليلاً، وسمحت للمقاومة بالتسلح، والتدريب، والإعداد لمواجهة المحتل الإسرائيلي، أما كانت ستثير فزع المستوطنين الصهاينة، وتجبرهم على الهروب من الضفة الغربية، مثلما هربوا ذات يومٍ من قطاع غزة؟