على مساحة ثلاثين ألف متر مربع تمتد برك سليمان تحيط بها مساحة مماثلة من المحميات الطبيعية، تجمع بين ثناياها كنوزًا أثرية وتراثية دينية وثقافية تعكس تداخلات الحضارات البيزنطية والمملوكية والعثمانية.
ولا تتوافر معلومات عن تاريخ بناء ما يعرف بوادي "الجنة المقفلة"، غير أن الدراسات والأبحاث تفيد أن أقدم إرث فيها يعود للحقبة الرومانية، في حين تثبت تدخلات بشرية أنها موجودة قبل الميلاد، وأنها نتاج تعاقب عدة عصور.
وبرك سليمان الواقعة في قرية أرطاس جنوب غرب مدينة بيت لحم هي ثلاث برك ضخمة متجاورة، من الغرب إلى الشرق، مع انحدار الوادي، تسع نحو 180 ألف متر مكعب من المياه، كما ذكر د. جاد إسحق مدير معهد الأبحاث التطبيقية (أريج).
و"أرطاس" كلمة من أصل يوناني تعني البستان أو الجنة، وعرفت زمن الصليبيين باسم (Hortus Conclusus) أي "الجنة المقفلة"، وما زالت تحتفظ منذ ذلك الحين بهذا الاسم.
وتعد المنطقة حزامًا من التاريخ والبيئة والثقافة، وتشكل مسارًا سياحيًّا وثقافيًّا، ومصدر سياحة مشتركًا بين سياحة المؤتمرات التي تشكل 28% من السياحة في العالم، والسياحة التاريخية.
وتوجد برك سليمان في منطقة وسطية في مسار بيئي يربط بتير غرب بيت لحم بجبل الفرديس ودير مار سابا شرق المدينة، وفيها أسرار محافظة بيت لحم التاريخية والثقافية القديمة.
وقد حُفرت البرك في الصخر الصلب، وأنشئت لتجميع مياه الأمطار قبل نقلها إلى بيت لحم والقدس، عبر قناتين بنيتا في زمانين مختلفين تسميان: القناة العليا، والقناة السفلى.
ومثلت مصدرًا للماء على مدار التاريخ لمدينة القدس المحتلة حتى احتلالها عام 1967، بفضل بناء هندسي وشبكة مائية معقدة لم يُكتشف كثير من خباياها حتى اليوم، وتضم قلعة مراد التي تعد الحصن الدفاعي لها.
وتفيد معطيات أن برك سليمان تحوي 167 نبتة من النباتات المهددة بالانقراض، وأن هناك أنواعًا من الطيور لا تتكاثر إلا في هذه البرك التي تعد من الأماكن ذات العلم البيئي المتكامل.
كما تضم مجموعة من المسارات والأنفاق وعيون المياه التي تربط البرك الثلاث بالمنطقتين الشرقية والغربية في بيت لحم، بمسافات تزيد على ستين كيلومترًا من القنوات المائية السطحية والجوفية، التي يصل عمق بعضها إلى 45 مترًا تحت الأرض.
ويشير الباحث التاريخي روبين أبو شمسية أن "أرطاس" واكبت العديد من الحقب التاريخية، واحتفظت بجوهر اسمها من خلال البساتين المزروعة بمختلف الخضراوات والفواكه، وينابيع المياه الممتدة بداخلها.
ويذكر أنها احتلت المرتبة الثانية من ناحية الأقدمية بعد مدينة أريحا، إذ أدرجت ضمن الخريطة السياحية الفلسطينية.
ويوضح أبو شمسية لـ"فلسطين" أن قناة البرك الفخارية حافظت على وظيفتها حتى أوائل عهد الاحتلال البريطاني لفلسطين، إذ استبدل بها قناة ومضخة من المعدن عام 1919م.
محراب وقلعة
ويلفت إلى أن موقع أرطاس سياحي ذو طابع أثري، وديني، وثقافي، إذ يوجد به معبد أقيم عام 1895 على أنقاض المسجد القديم الذي بني مقامًا لسيدنا عمر بن الخطاب عندما زار القدس.
ويصف "أبو شميسة" المحراب بـ"البسيط، ولكنه يمثل عراقة قرية تعاقب عليها العديد من الأجيال والحقب السابقة، فكانت مستقطبة من المماليك والسلاطين".
أما قلعة مراد فهي المعلم الأثري الرابض على مقربة من البركة العليا، وما زالت تتحدى القرون بشموخها، ولم تنل من صمودها نوائب الزمان.
وسميت القلعة بهذا الاسم نسبة إلى السلطان العثماني مراد الرابع الذي حكم في القرن السابع عشر الميلادي، غير أن د. قسطندي شوملي يقول: "إن الكتابات التي وجدت أعلى بوابة القلعة تنص على أنها بنيت في عهد السلطان عثمان الثاني سنة 1618".
وقد بنيت القلعة لحماية "برك سليمان" وقنواتها من العابثين، ولحماية الطريق الواصل بين بيت لحم والقدس.
وتحتوي القلعة على غرف لمبيت الجنود، ومسجد للصلاة، وأربعة أبراج على زواياها الأربع، ويوجد إلى جانب القلعة من الجهة الجنوبية نبع ماء صغير يسمى "رأس العين".
ويؤكد أبو شمسية ضرورة الحفاظ على هذا الكم الكبير من الإرث التاريخي المتعاقب، الذي يمكن الاستفادة منه بناء حضريًّا استثماريًّا سياحيًّا تقع حمايته على عاتق السلطة الفلسطينية.
غير أن واقع حال المعالم الأثرية في أرطاس يرثى له، فالبرك فارغة من المياه ومهملة إلا من قصر للمؤتمرات ومتحف وطني في القلعة بدأ العمل بهما في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات عام 1998، وافتتحا في عام 2010.
ويحيط بالبرك الاستيطان الإسرائيلي، إذ لا يبعد أقرب بناء استيطاني عن برك سليمان أكثر من 500 متر من جهة الجنوب في البؤرة الاستيطانية (جفعات هاداجان).
وأثارت حفلات صاخبة نظمت في برك سليمان حالة استياء واسع لدى سكان المنطقة.
وانتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي والموقع الشهير "تيك توك" صور ومقاطع فيديو لحفل راقص في قلعة مراد، شارك فيه حشد من الشباب والفتيات على وقع أغانٍ ماجنة ورقص مختلط، وتخلله تقديم الخمور.
وأعادت المشاهد إلى الأذهان غضب الشارع الفلسطيني أواخر العام المنصرم، بعد نشر مقاطع فيديو لاحتفالات صاخبة وماجنة صاحبها تقديم الخمور في مقام النبي موسى جنوب مدينة أريحا.