سرَّبت وسائل إعلامية أنه في أحد اللقاءات التي ضمَّت وفد حركة طالبان مع الوسطاء والأمريكان، أدخل أحد أعضاء الوفد سلاحًا إلى جلسة الحوار، فاعترض أحد المجتمعين وأنكر عليه ذلك الأمر وطلب منه إخراج السلاح من الجلسة، غير أن وفد الحركة رفض إخراجه قائلًا: "لولا هذا -مشيرًا إلى السلاح- ما جلستم معنا".
هذا الموقف يذكرنا بموقف حصل في أيام العز الأولى في معركة القادسية، حين دخل الصحابي الجليل ربعي بن عامر على رستم قائد الفرس وقد زيَّنوا مجلسه بالنَّمارق المذهَّبة، والزَّرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحُه ودرعه وبيضتُه على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتِكم، وإِنّما جئتكم حين دعوتموني، فإنما تركتموني هكذا وإِلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النَّمارق فخرَّق عامتها.
الشاهد في القصة أن رستم اجتمع برؤساء قومه بعد هذا الموقف فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: مَعاذَ الله أن تميل إِلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما تنظر إلى ثيابه؟ فقال: ويلَكم، لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب -ويقصد المسلمين آنذاك- يستخفُّون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين وقتْل رستم ثم انهيار الدولة الفارسية.
وعلى النهج ذاته سار المجاهدون الأفغان، وأعلنوا دولة إسلامية عندما انتصروا على الاتحاد السوفيتي وأجبروه على الانسحاب بعد 10 سنوات من الكر والفر -وتسببوا في تفكيكه فيما بعد-عقب مفاوضات مطولة ومليئة بالتجاذبات حول الانسحاب من أفغانستان.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد انسحبت القوات الأمريكية على وقع الضربات وبعد مفاوضات طويلة مع مقاتلي طالبان الذين أعلنوا من جديد أنهم سيشكلون حكومة إسلامية "نقية" كما قال زعيمهم أخوند زاده.
انتصرت طالبان في الحرب بصبرها وجهادها بعد 20 عامًا من مقارعة الاحتلال الأمريكي، ولكن علينا تعلم بعض الدروس:
أول درس يجب أن يكون موجهًا لأتباع الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، فعلى مدار العصور والأزمنة، أثبتت كل الشواهد أن أي احتلال يخرج من الأرض التي يحتلها، تتكرر فيها مشاهد استغنائه عن أعوانه وأتباعه، ويُفضّل عليهم الكلاب التي استخدموها في تلك الأرض، كما ظهر في مشاهد الإجلاء التي أجراها الاحتلال الأمريكي في أفغانستان، وترك الكثير من أعوانه يتصارعون في مطار كابل، عسى أن يلحقوا بطائرة تخرجهم إلى أي مكان بعيدًا عن بلدهم الذي أصبحوا فيه خونة، وهذه رسالة وناقوس خطر بأنه ما تزال هناك فرصة لمن ربط مصيره بمصير الاحتلال الإسرائيلي بأن هذا المشهد حتمًا سيتكرر، وما انسحابه من قطاع غزة عنكم ببعيد.
ثاني درس هو للمجاهدين في غزة، مفاده بألا تتركوا السلاح مهما وصل الأمر بكم من ضعف مقارنة بقوة أعدائكم، ويجب أن تثبتوا على مبادئكم، وأن الصبر هو مفتاح النصر، فلم ينتصر المجاهدون الأفغان إلا بعد أن ثبتوا على مدار أكثر من ربع قرن، وواجهوا خلاله احتلالين هما أكبر قوتين في العصر الحديث، على الرغم من اتهامات الغرب لهم بالتخلف والرجعية والإرهاب، وانتصروا في النهاية لأن النصر حتمًا حليف أصحاب الديار، فكونوا حُماة الديار حتى يكون النصر حليفكم، ولا تلهثوا خلف نزع اسمكم من قوائم الإرهاب التي وضعها أعداء الله، وكونوا إرهابيين كما أمر الله: "تُرهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين"، ولا يضركم من خالفكم ولا من خذلكم.
أما الدرس الثالث فهو موجه للمحتل الإسرائيلي -آخر احتلال عسكري موجود حتى الآن- بأن كونوا على يقين بأن نهايتكم اقتربت، فإن أي احتلال سيكون عاقبته إلى زوال، كما حصل في أفغانستان وغيرها من الدول التي وقعت تحت الاحتلال، وما انسحابكم مذلولين من غزة تحت ضربات المجاهدين -الذي تمر ذكراه في هذه الأيام- وسيطرة المقاومة عليه بعد طرد أذنابكم في 2007 والانتصار المتراكم في جولات 2008 و2012 و2014 و2021، إلا خير دليل على أن منحنى المجاهدين في تصاعد نحو النصر، وأن منحناكم في هبوط نحو أسفل السافلين، وأختم بقول زعيم طالبان الراحل الملا عمر عندما أعلنت أمريكا الحرب على أفغانستان: "لقد وعدنا الله بالنصر ووعدنا بوش بالهزيمة، وسنرى أي الوعدين أصدق"، ولقد صدق الله وكذب بوش ومن تبعه.