فلسطين أون لاين

حكاية وخرافة من التراث الصفافي

...
أحمد نبيل - فنان وباحث في التراث الفلسطيني

في بيت صفافا منذ زمنٍ بعيد، كانت هنالك قبل شق الشارع العظيم (شارع رقم 4) بئر ذات فوهتين محفورة في الصخر، اسمها "بئر أبو خشبة" أو "بير أبو خشبة" باللهجة المحلية، ولم تعد موجودة الآن. الفوهة الأولى كانت الرئيسة وكانت كبيرة نسبيًّا، والثانية أصغر من الفوهة الرئيسة وفيها عدة أدراج نزولًا إلى داخلها، البئر كانت مهجورة ومشهورة، ليس فقط لأصلها الروماني، ولكن أيضًا لأنها كانت مخيفة جدًّا، حتى ذاع صيتها على أن هنالك رصدًا من الجن يسكنها (وفي رواية أخرى: ماردًا) عدا عن كونها مسرحًا لتحدِّي الشجاعة بين شباب القرية آنذاك.

حول بئر أبو خشبة نُسجت الكثير من الحكايات والخرافات، والتي قمتُ بتوثيقها وجمعها من كبار السن، أورد هنا حكاية وخرافة ما جمعته.

حكاية بئر أبو خشبة

تقول الحكاية بأن هنالك شابًّا اسمه.. لنَقُل اسمه "علي"، مرَّ يومًا برفقة أصحابه بجانب "بير أبو خشبة"، فأشار أحدهم إلى حجم الرهبة التي تقرُّها البئر في نفوس المارَّة، ودار نقاش حاد بين علي وأصحابه حول رفضه فكرة أن البئر مخيفة وبأن هنالك رصدًا يسكنها، فطلب إليه أحد أصحابه بأن ينزل إلى البئر، فقال علي: أفعل! انتظروا هنا! فرد أحدهم: لا، ليس الآن! نريد أن نعرف ما إذا كان بإمكانك أن تنزل إلى داخل البئر ليلًا شريطة أن يكون هنالك إثبات بأنك نزلت! فوافق علي وقال: ننتظر معًا حتى يحلَّ المساء، تذهبون أنتم إلى بيوتكم، وآخذ وتدًا وأنزل ليلًا إلى البئر أدقُّه، وتأتون غدًا صباحًا إلى البئر لرؤيته، وحصل الاتفاق.

حلَّ المساء، وغادر أصحاب علي إلى بيوتهم، فأمسك بالوتد والمطرقة ونزل رويدًا رويدًا إلى داخل البئر متمتمًا لعنات يهمسها بضيق لنسيانه الفانوس، كان الظلام حالكًا وهنالك صدًى لنَفَسِه داخل البئر الكبير والرطِب.

ظن علي أنه رأى شيئًا؛ فشعر بالخوف يتسلل إلى قلبه، ومع تسارع دقاته، قرر أن ينزل مسرعًا وشرع يدقُّ الوتد في الأرض، وحين همَّ بالقيام فإذ به يستشعر وكأن يدًا قد أمسكت بقمبازه وشدته نحو الأرض، لم يكن علي متأكدًا مما رأى فوقع مغشيًّا عليه.

في صباح اليوم التالي، أتى أصحاب علي لتفقد الوتد الذي دقّه؛ ليقرّوا له بشجاعته، فنزلوا كمجموعة إلى داخل البئر بوجلٍ ليجدو عليًا ملقًى على الأرض، فالتفوا حوله ليحملوه خارج البئر فإذا بشيء يشدهم نحو الأرض، فخاف أصحاب علي وصاح أحدهم: الرصد! فتركه أصحابه وانفضّوا باتجاه درج البئر إلا آخرهم نظر خلفه لتفحص علي فإذ به يلمح الوتد، فعاد أدراجه ليكتشف بأن الوتد الذي دقه علي مدقوق في قمبازه ما تسبب بإحساسه بأن أحدهم قد أمسك به وبالتالي خوفه الشديد لاعتقاده بأن الرصد هو من قام بالإمساك به وتسبب بالإغماءة (وفي رواية أخرى.. وفاته!).

خرافة غولة بئر أبو خشبة

كانت هذه الخرافة ضمن أولى الخرافات التي سمعتها عن المخلوقات الخرافية المخيفة من كبار السن في القرية والتي جذبتني للاهتمام أكثر بالحفاظ عليها وتوثيقها.

تقول الخرافة أنه عند اكتمال القمر من كل شهر تخرج فتاة جميلة مجهولة الهوية ليلًا لتقف عند البئر، لها شعر طويل أسود منسدل تقوم بتمشيطه وتسريحه تحت ضوء القمر، وفي رواية أخرى تكون جالسة على البئر وهنالك فتاة أخرى تقوم بتمشيطه وتسريحه لها، لا تتأثران بالمارة وكأن الأمر طبيعي للغاية (مع ندرة المارة ليلًا في ذاك المكان المخيف آنذاك) كما ويقال بأن رجليها رجلا ماعز، مما يطابق إلى حدٍّ كبير مواصفات السعلاة ("الغولة" في لهجتنا المحلية).

سمعتُ الخرافة من ثلاثة أشخاص كبار في السن، قالت إحداهم بأن شعرها لم يكن أسود بل أشقر اللون، وقالت أخرى بكل وضوح: يُقال إنها غولة! وحين عدتُ لمقابلتهم مرة أخرى للاستفسار أكثر عن تفاصيل أعمق حول هذه الخرافة أنكروا عليَّ حديثي هذا، واندثرتْ الخرافة لديهم وتوثقت لديَّ.

هنالك مئات الخرافات والحكايات الشعبية الفلسطينية والمتعلقة بكل قرية، بلدة ومدينة، تندثر يوميًّا بسبب إهمالها، والتقليل من أهمية تدوينها بحجة أنها "خرافة" قضى زمانها، وعصرنا تطور ونحن بحاجة الانسلاخ عنها؛ فلدينا التربية الحديثة، التي أحلَّت -على سبيل المثال- "شرطة الأطفال" محلّ الغول و"أبو كيس" في تربيتنا لأطفالنا؛ فتندثر هذه الحكايات ليس لأن المدونين قلة، بل لأنها من منظور المحدثين: تخاريف المسنين أو أساطير الأولين.

كثيرون يؤثرون سرد حكاية بيضاء الثلج والأقزام السبعة أو رابونزيل لأطفالهم بحجة أنها أقل عنفًا ودموية من جبينة، نص نصيص وسرايا بنت الغول والتي -من منظورهم- يمكن أن تتعوض بفيلم أو مسلسل سواء أكان إنتاجًا محليًا أو أجنبيًا، ولكن الحقيقة أنه شتان ما بين حكاية شعبية قديمة رويت لموعظة وتسلية حسنة وفيلم كُتب بالأساس لعقول مغيَّبة!