فلسطين أون لاين

"المستشار" أعاد المياه المسروقة ورحل

تقرير "شادي الشرفا".. روى عطش "بيتا" وسقى ترابها

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بعينين مغمضتين يمسك "ليث" برأس والده وهو يرفعُ رأسه نحو السماء يحاول حبس دموعه، وتجرع صدمة الرحيل، وهو يرى والده مسجى أمامه ملفوفًا بعلم فلسطين، بعد أن احتجز الاحتلال جثمانه قرابة أسبوعين. بقربه بهتت ملامح وجه شقيقته بيسان، تريد إطالة مراسم الوداع باحتضانه لأطول وقت ممكن، تتأمل ملامحه أكثر بينما تكوي دموعها وجنتيها.

حسه الوطني وانتماؤه، كان دائمًا يحتمُ عليه أن يسقي أهل قرية "بيتا" ويمدهم بالمياه، يحاول أن يستعيد بعضًا من حقوقهم المائية التي يسرقها الاحتلال يوميًّا، يسلكُ أقرب الطرق المؤدية إلى الموتِ، يعلم خطر المهمة التي تقلد بطولة تنفيذها منذ سنوات طويلة.

في وقت كانت المواجهات مشتعلة على قمة "جبل صبيح" في 27 يوليو/تموز الماضي حيث يواصل أهالي "بيتا" جنوب نابلس تصديهم لمساعي مستوطني الاحتلال إنشاء بؤرة "افيتار"، كان شادي الشرفا (41 عامًا) والذي يعمل في بلدية القرية منذ 17 عامًا يؤدي مهمة أخرى تقضي بتوصيل المياه للقرية بعد فترةٍ لم تبتل فيها عروق سكان بيتا المقاومين، فيما عطشت خضرة القرية.

المهمة الأخيرة

وتحت جنح الظلام وعلى ضوء القمر في منطقة تنعدم فيها الرؤية وتزداد رهبة المرور فيها، قطع شادي مسافة تتجاوز سبعة كيلومترات بعيدًا عن "بيتا". في الطريق الواصل بين نابلس ورام الله، هناك ركن سيارته وتجاوز الطريق مشيًا لمسافةِ خمسين مترًا، مشى على أرض وعرة كلها أشواك وأشجار زيتون، ووصل إلى ساعات صنبور المياه، قام بفحصها وتشغيلها ليمد القرية بالمياه مرةً أخرى.

وفي أثناءَ انسحابه من المكان اصطادته عيون جنود الاحتلال المنتشرين في المنطقة، داست أيديهم على زنود بنادقهم لتتسابق رصاصاتهم في الوصول إلى جسده الذي اخترقته اثنتا عشرة رصاصةً.

سقط "شادي" أرضًا على مشارف قرية "بيتا" بعد أن روى عطشها للماء وشغل صنابير المياه، ونزفت دماؤه وسالت لتروي ترابها.

عدّة لصيانة شبكات المياه، ودمٌ ملتصق بالتراب والصخور المجاورة لشبكة المياه التي تغذي "بيتا" وبلدة "حوارة"، وسيارة مركونة إلى جوار الشارع هي بقايا ما تركه "شادي"، مكذبًا فيها مزاعم جيش الاحتلال بمحاولته تنفيذ عمل مقاوم.

احتُجز جثمان شادي في ثلاجات الموتى وأُفرج عنه قبل أيام، شيعه أهالي "بيتا" وحملوه على الأكتاف، ودعه أطفاله الثلاثة الذين وعدهم أن يعود في اليوم التالي ويملأ البركة الإسفنجية التي اشتراها بالماء ليستمتعوا بالهروب معًا من لهيب الصيف الحارق.

تستمع صحيفة "فلسطين" على الطرف الآخر من الهاتف إلى صوت الحزن المنبعث من أعماق قلب سائد وهو يرثي رحيل شقيقه: "وعد أخي أطفاله بأنه سيملأ البركة الإسفنجية التي اشتراها لهم بالماء وسيلهو معهم في اليوم التالي لكنه ليس له نصيب في ذلك (..) أخي كان محبوبًا من كل سكان القرية، الجميع هنا يقدر دوره في خدمة الأهالي في مجال البناء".

تنبعثُ من صوته كلمات فخرٍ: "ما فعله أخي هو تضحية وبطولة وهذه الدماء التي سالت ستبقى لعنةً تطاردُ الاحتلال، وتذكرُ بحقوقنا المائية التي يسرقها ويصادرها".

جندي مجهول

عضو بلدية "القرية" عبد المنعى عيسى، يقربُ مجهر الحديث أكثر عن دور شادي بعدما استهل حديثه بالترحم على روحه وإلقاء السلام عليه "الله يسهل عليه ويرحم كان جنديًا مجهولًا على مدار سبعة عشر عامًا".

أحد أساليب الاحتلال في محاربة "بيتا" يتمثل في تخفيض كمية المياه الواصلة للقرية، و"شادي" كان يتولى على عاتقه الشخصي تفقد ساعات المياه، "وفي بعض الأحياء كان يلاحظ انخفاض في ضخ المياه، فلك أن تتخيل تأخر الضخ ساعةً عن قرية يسكنها 16 ألف نسمة فسيؤدي إلى إحداث مشكلة كبيرة"، يقول عيسى بصوتٍ يشبه البكاء على دور الشهيد.

المهمة التي يؤديها شادي لم تكن سهلة وكان يعرفُ مسبقًا بأنه قد يدفع ثمنها في يوم من الأيام، وهنا يزيح صديقه في البلدية الستار عن صعوبةِ المهمة: "ساعات الصنبور موجودة في منطقة حساسة على مشارف القرية لذلك المخاطرة كبيرة، ومعروف عنها أنها رأس حربة المقاومة في الضفة، ودائمًا يحاصرها جنود الاحتلال من كل الاتجاهات".

وباستشهاده، فتح شادي ملف الحقوق المائية المسروقة، ومعاناة البلدة من جراء هذه السياسية، يعرض عيسى المعاناة من الداخل "دائمًا نعاني من الأزمة، فسكان البلدة يصل إليهم يوميًّا نحو ألف كوب من المياه، وهذه النسبة شيء قليل بالنسبة لسكانها البالغ عددهم ستة عشر ألف نسمة، ولا تفي بالغرض، وهناك بيوت لم تصلها المياه منذ شهر وشهرين، لكن شادي الذي امتلك ضميرًا حيًّا كان يتحرك طوال السنوات الماضية من أجل سد حاجة الناس وجلب حقوقهم، وهذا ما دفع ثمنه".