بين الحرب والسلام هناك منطقة من النزاع البارد تختلف فيها المفاهيم وتختلط القواعد، باتت تعرف بـ"المنطقة الرمادية"، وتمثلها الأنشطة التي يقوم بها كيان ما، وتضر بكيان آخر، وتعد ظاهريًّا أعمال حرب، ولكنها من الناحية القانونية ليست أعمالًا حربية.
بتاريخ 21 مايو انتهت الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ بدأت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" هذه العملية ردًّا على الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة في المسجد الأقصى المبارك، ومحاولة الجماعات اليهودية فرض واقع فيه على غرار ما حدث بالمسجد الإبراهيمي في الخليل، وردًّا أيضًا على تهويد حي الشيخ جراح في القدس ومحاولة طرد خمسمئة فلسطيني من منازلهم.
كشفت هذه المواجهة عن وحدة الشعب الفلسطيني وتضامنه في تجمعاته الجغرافية كافة، وكذلك عن مركزية الأقصى والقدس في الصراع، وكشفت أيضًا عن مدى ما تتمتع به حماس من الإدارة الجيدة للصراع، وقدراتها الاستخبارية وقراءة ما يفكر به العدو، وتغلبها على ظروف الحصار المفروض عليها، وبينت المواجهة وجود ثغرات كبيرة في حائط مستقبل الكيان الإسرائيلي.
فكان القرار الإسرائيلي تبهيت إنجازات حماس العسكرية، وإضعافها سياسيًّا والحد من سيطرتها على الشأن الفلسطيني.
وبدأت المراوغة الإسرائيلية والضغط على سكان قطاع غزة بعدة أدوات، أهمها تأخير إعادة الإعمار، وعرقلة مسارات تعزيز صمود سكان القطاع، والضغط لأقصى حد على الاقتصاد المنهار أصلًا.
عند هذه الحالة تقف حماس وفصائل المقاومة وعلى عاتقهم الخروج من حالة الانحدار، فالعمل الوطني لا يقف عند الأعمال العسكرية بل يتخطاها لتوفير مقومات الصمود، وتجهيز البيئة المناسبة للعيش، حتى تحقيق الهدف الأسمى لجميع مقومات الشعب الفلسطيني، وهو التحرير.
وبدأت بكل مسؤولية عمليات المشاورة التي تقودها حماس مع فصائل العمل الوطني للخروج من هذه الحالة، واضعين أمامهم جميع الخيارات، وأهمها خيار استنزاف الاحتلال.
ويبدو أن قرار استنزاف الاحتلال قد اتُّخِذ بتفعيل ما يعرف بتكتيكات المنطقة الرمادية، دون الوصول إلى مواجهة حقيقية.
ستعمل حماس على تعزيز مصداقيتها أمام الجمهور الفلسطيني الذي وضع ثقته بها، بعدة وسائل تضغط بها على العدو، لكنها تُجنب قطاع غزة ويلات الاعتداءات الإسرائيلية العسكرية، بتعزيز الردع دون المجازفة باستجلاب رد عسكري إسرائيلي.
أصبحت حماس على يقين أن ممارسة عملية ضبط النفس قد فتحت شهية الاحتلال للمطالبة بمزيدٍ من التنازلات، والضغط على المقاومة بتحميلها حالة التردي الذي وصلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، وعلى هذا إن المشاغبة والمشاغلة خيار لا بد منه في الوقت الراهن.
لا شك أننا سنشهد في المدة المقبلة تطبيقًا عمليًّا لمجموعة من الأدوات التي تتنوع ما بين الناعمة والخشنة، لإحراز مكاسب واقعية تدريجيًّا وتراكميًّا دون اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة، بدءًا من تفعيل مسيرات العودة وإطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، وليس انتهاء بتفعيل العمل السيبراني وتوجيه رسائل لمجتمع كيان الاحتلال الإسرائيلي.
سيكون هدف حماس في المرحلة القريبة القادمة هو تقييد حملة الضغط الإسرائيلي على المجتمع الفلسطيني، وإرباك الكيان ليخضع للمطالب المشروعة، ثم تحميله تبعات اعتداءاته المتكررة.