فلسطين أون لاين

قيادة المشروع الوطني الفلسطيني

ما دفعني إلى كتابة هذا المقال سؤال لأحد المثقفين ممن ينتمون لتيار المقاومة، سؤاله مباشر ويقول فيه: هل من الممكن أن تقود حركة المقاومة الإسلامية "حماس" يومًا ما المشروع الوطني الفلسطيني؟ وماذا عليها أن تفعل من أجل تحقيق هذا الهدف؟

إجابات مختصرة، إذ قلت له: المشروع الوطني الفلسطيني يقوم على ركيزتين: العودة والتحرير، وكي يتحقق ذلك نحن بحاجة لدراسة أهم الأدوات التي يمكن أن تحقق هذا الهدف الإستراتيجي، وهو النظام السياسي الفلسطيني، وأبسط تعريف له: هو منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، والمجتمع المدني، والقوى الوطنية والإسلامية، وواضح أن أضلاع المربع الأربعة مرتبطة معًا ومتداخلة، ويتطلب أن تعمل جميعًا ضمن مسار واحد لتحقيق هدف العودة والتحرير، فهل ذلك ممكن في ظل منظمة تحرير فلسطينية يؤثر فيها وعليها نظام إقليمي عربي تابع لتوجهات أمريكا في المنطقة الحليف الأكبر لـ(إسرائيل)، وديمقراطية تكاد تكون غائبة كليًّا عن مؤسساتها، وهيمنة حزب واحد على قراراتها ومقدراتها، حتى نشأت جماعات مصالح محلية لا تقبل التغيير، وتعمل كل ما بوسعها على تثبيت الواقع الراهن؟

أما الضلع الثاني فهو السلطة الفلسطينية، وهي أسوأ حالًا من منظمة التحرير، وترتبط باتفاقيات مجحفة تجعل من فرص العودة والتحرير حلمًا بعيد المنال، بل ساهمت في قتل الروح الوطنية، وأصبح المال السياسي الذي يشكل صمام أمان بقائها مرتبط بدورها الوظيفي والأمني الذي رسخته الاتفاقيات الأمنية مع الاحتلال، وتولدت جماعات مصالح تتقاطع مع من سبقها في الهدف نفسه، وهو بقاء السلطة بشكلها الحالي، وهو ما يتقاطع أيضًا مع الرؤى الإقليمية والدولية.

الضلع الثالث هو المجتمع المدني، وهو ولد من رحم الفصائل الفلسطينية، التي في معظمها هي جزء من الأضلاع السابقة، وتمويلها من الدول نفسها التي تعمل على استمرارية وديمومة الحالة الراهنة.

الضلع الرابع هو القوى الوطنية والإسلامية التي انقسمت إلى فريقين: الأول مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلطة والمنظمة، والثاني مرتبط بحركة حماس والمقاومة، وبعض هذه القوى تمارس الديمقراطية الداخلية نظريًّا وتبتعد عن التطبيق عمليًّا، وبعضها الآخر لا يمارس الديمقراطية بانتظام، حتى وصل الأمر أن يتولى أمين عام منصبه من المهد إلى اللحد.

وأكملت إجابتي بأن من يفكر بقيادة المشروع الوطني دون تغيير في النظام السياسي الفلسطيني كأنه يبحث عن السراب.

السؤال الأهم الذي أطرحه في هذا المقال: ما سبب انتكاسة المشروع الوطني الفلسطيني؟ وهل نحن بحاجة لتقييم أم أننا نسير على البركة؟ وهل نمتلك خططًا يومية لإدارة الأزمة والحفاظ على البقاء حتى لو كان ذلك البقاء اضطراريًّا؟ كيف نجحت (إسرائيل)؟ وما أهم أسباب نجاحها؟ وهل نحن فعلًا نستطيع مجاراتها؟ ما الحل؟

بحاجة إلى جرأة في التشخيص وجرأة في وضع العلاج، ولا يعيبنا إن فهمنا التجربة الإسرائيلية ووقفنا عند أسباب نجاحها نقطة انطلاق في التقييم والمراجعة، فالصمت لم يعد له مسوغ في حالة التدهور التي تمر بها القضية الفلسطينية، وهذا التدهور هو إحدى أهم نقاط تقدم دولة الاحتلال الإسرائيلي.

أحد أهم أسباب انتكاستنا أننا أقمنا سلطة تحت الاحتلال الإسرائيلي، هذا الاحتلال المدعوم من أغلب دول العالم سرًّا وعلانيةً، حتى بات الطريق إلى البيت الأبيض والرأسمالية العالمية يمر عبر (تل أبيب)، فيا ترى كيف سندير السلطة ضمن هذه البيئة؟

أيضًا أحد أهم أسباب انتكاستنا تعدد مشاريعنا الوطنية، والولاءات الحزبية والأيديولوجية، وارتباط بعضها بمشاريع إقليمية ودولية، حتى بات بعض الشخصيات يرتبط تعيينهم ضمن محاصصة مخابراتية خارجية، وبعض الأحزاب ترتهن قراراتها بأجندة ممولين خارجيين، ففقدنا القرار المستقل، وأصبح أكذوبة تمرر علينا عبر خطابات إعلامية هنا وهناك، ولأن جزءًا من شعبنا يحفظ ولا يفهم وتقود عقوله وسائل إعلام حزبية، وتحكمه مصالحه وأهواؤه الشخصية، بات جزء منا أشبه بالقطيع الذي يقوده شخص هنا أو حزب هناك.

ولو تأملنا التجربة الإسرائيلية كيف تتعدد الأحزاب وتتغير الولاءات وفقًا لما يخدم أهداف ومصالح دولة الاحتلال لفهمنا أن الانتماء للحزب ليس مقدسًا، وأن المقدس هو الانتماء للوطن والفكرة، فعندما يحيد الحزب أو الشخص عن الوطن أو الفكرة ينبغي الانتقال فورًا إلى حزب آخر أو تشكيل أحزاب جديدة، لو تعذر توحيد الحركة الوطنية كما حصل مع التجربة الجزائرية، ولكننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن تلك الثقافة الوحدوية.

أيضًا من سبب انتكاستنا أنه بات كل طرف منا يقزّم ما يراه الطرف الآخر إنجازًا، فأصبحت إنجازاتنا الحقيقية محل تشكيك وطعن، والمحصلة صناعة مجتمع تتآكل فيه معاني الوطنية تدريجًا، وأصبحنا جميعًا نُصنَّف في نظر بعضٍ فشلة، ومن هنا ترتقي دولة الاحتلال وتزداد تألقًا.

أيضًا من أسباب انتكاستنا غياب جودة التعليم، صحيح أننا أكثر الشعوب تعلمًا ولكننا بعيدون كل البعد عن جودة التعليم، وعن توجيه التعليم لما يخدم مشروعنا الوطني، فتدار المنح الدراسية دون دراسة حقيقية لطبيعة الاحتياج الحقيقي، عقولنا تهاجر لأنها تحارَب، وشبابنا تبحر في مياه الغرب لأنها لم تجد مقومات الحياة.

سبب انتكاستنا أننا افتقدنا معاني الكرامة في الضفة المحتلة ولكننا وجدنا رغد العيش هناك، في حين افتقدنا رغد العيش في قطاع غزة ورسخنا الكرامة، ولم يلتفت قادتنا إلى ترسيخ معاني رغد العيش والكرامة معًا في الأراضي الفلسطينية، بل على العكس نجد من يساهم في تدمير كل شيء جميل في وطننا الغالي فلسطين.

سبب انتكاستنا أن أرحامنا لا تنجب إلا القائد الأوحد، فغابت الديمقراطية الحقيقية عن مؤسساتنا فأصبح القائد من المهد إلى اللحد، إلا من رحم ربي.

سبب انتكاستنا أننا اعتقدنا أن المرأة لا تحكم انطلاقًا من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وبعضٌ بعلم أو دون علم يتعاطى مع الحديث الشريف الصحيح أنه يمنع وصول المرأة إلى سدة الحكم، ودفعني ذلك للتساؤل: كيف نجحت 22 امرأة وصلن إلى سدة الحكم في العالم (على سبيل المثال: أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية)؟ حتى باتت المرأة في الحركات الإسلامية والوطنية تخشى الوصول إلى الحكم انطلاقًا من هذا الحديث، ولم نفكر في مديح الله لملكة سبأ بلقيس في سورة سبأ.

سبب انتكاستنا أننا لا نعرف ماذا نريد وكيف نحقق ما نريد، ونتخبط في صناعة الوثائق وتغيير المواثيق، ونبدع في إقناع الغرب الذي صنع دولة الاحتلال لتكون لواءً عسكريًّا متقدمًا للدفاع عن مصالحه، وإفشال أي نهضة حضارية لدى شعوب المنطقة.

سبب انتكاستنا عندما غلبنا منطق "الكوبون" الغذائي والمساعدة المجانية والرجل المناسب في المكان غير المناسب، فأصبحت لدينا شريحة واسعة اتّكالية لا تعمل وتتبنى إستراتيجية البكائيات، فأصبح جزء من مجتمعنا عبئًا علينا، بدل أن نحول هذا المجتمع إلى مجتمع صناعي منتج يصنع لقمته بيده، فيتحرر من المال السياسي الذي يهبه العالم لنا، لنكون رافعة لدولة الاحتلال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

سبب انتكاستنا أننا نتقاتل على سلطة تحت الاحتلال، فقدمنا أكبر هدية للاحتلال هي انقسامنا، فأصبحت (إسرائيل) تبتز كل طرف على حدة، حتى بتنا أكثر ضعفًا ويأسًا وإحباطًا.

أسباب انتكاستنا كثيرة، وما أحوجنا لمجموعة من المفكرين أن يرصدوها ويقفوا عندها ويضعوا الخطط لمعالجتها، ولكن على قاعدة المعالجة الحقيقية، لا صناعة الورق وتكديسه في الأرشيف ليأكله العفن.

إن عوامل نجاح المشروع الصهيوني في إقامة دولة (إسرائيل) عديدة، لعل أهمها وضوح الرؤية والإستراتيجية، وكذلك فشلنا نحن بسبب انتكاسة مشاريعنا الوطنية، يضاف إلى ذلك العوامل الخارجية في دعم دولة الاحتلال والحفاظ على تفوقها في جميع المجالات، واهتمام دولة الاحتلال بالتعليم وجودته وتوظيف ذلك لخدمة مشروعها، وأيضًا دعم الجاليات اليهودية في جميع الأماكن من أجل نجاح دولة (إسرائيل) ورفعتها وضمان تفوقها.

الخلاصة: لا شك أن توصيف انتكاستنا سهل جدًّا، ووضع الحلول ربما يكون أيضًا سهلًا، ولكن الصعوبة تكمن في العقول التي تطبق هذه الحلول، من هنا ينبغي أن نبدأ بالعمل الجاد، وليكن ذلك دعوة للفصائل والمجتمع المدني وكل مناصري القضية الفلسطينية للبدء في العمل الجاد، لوضع الحلول اللازمة لمعالجة ما يمكن علاجه قبل فوات الأوان.