فلسطين أون لاين

تقرير من بين ركام الألم.. متفوقون حوَّلوا الحزن للحظات فرح

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

من بين ركام المنازل المدمرة نبتت زهرة الأمل في نفوسهم، لم يرفعوا الراية البيضاء للظروف الصعبة ولا للعدوان الإسرائيلي الذي طال منازلهم، تعالوا على جراحهم وتفوقوا وحصدوا أعلى الدرجات في الثانوية العامة، عبروا العام الدراسي متخطين الألم الذي عاشوه بدءًا من أزمة فيروس كورونا، وصعوبات التعليم الإلكتروني، ومرورًا بعدوان عسكري قاسٍ في مايو/ أيار الماضي قبيل خوض الامتحانات النهائية، فعادوا يرسمون الفرح على أنقاض منازلهم.

حصلت على معدل 99.1% في الفرع العلمي

سماح تجاوزت محنة "ثلاثية الأبعاد" وأنجزت "المهمة المطلوبة"

الطائرات الإسرائيلية تقصفُ مناطق مختلفة في قطاع غزة بلا هوادة، عائلة الطالبة سماح كوارع من محافظة رفح، نزحت من منزلهم المسقوف بألواح "الزينكو" إلى بيت خالها، صعدت إلى الطابق العلوي، وجلست على المقعد تقلب صفحات الدرس الأول على وقع أصوات صواريخ بدأت تقتربُ من بعيد وتعلو شيئًا فشيئًا، لكنها واصلت المذاكرة متحديةً صوت القصف، تدافعُ عن حلم طفولتها بأن تكون طبيبة، تتصدى لأصوات الخوف المنبعثة داخلها مع كل صاروخٍ ينزل على مقربة منها، فكانت تطلقُ رشقات من الأمل تحفز به نفسها، لم تستسلم لانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، ولا لانعدام الرؤية بسبب ضعف إنارة الطاقة البديلة، ولا لذلك الصاروخ الذي سقط بالقرب منهم وهشم زجاج نافذة الغرفة التي لامست أجزاء منها، فكان حلمها أكبر من ذلك كله.

حركةٌ مضطربةٌ على غير العادة، وأصواتٌ تنبعث من الخارج "يلا اطلعوا بدهم يقصفوا بيت الجيران!"، سماح تسأل زوجة خالها التي صعدت لغرفتها: "ايش فيه!؟"، لتطلب منها الخروج فورًا: "سيبي كل شيء بايدك واطلعي عندهم قصفونا"، سقطَ الكتاب من بين يدي سماح، التي ركضت مع زوجةِ خالها التي تمسكُ يدها وهي تحاول العودة لأخذ كتبها، تبكي حسرتها: "طلعت من بيتنا عشان احمي كتبي وحلمي، والآن ضاع كل شيء".

مرت نصف ساعةٍ ولم يُقصف المنزل، عادت الفرحة على جناحي طائر لقلب سماح، وعاد الأملُ ورحل الألم، جفت الدمعة وارتسمت الابتسامة من جديد، تحدت سماح الظروف لتحصل في الثانوية العامة على معدل 99.1%، أنجزت الجزء المطلوب منها بالحصول على المعدل المطلوب لدراسة الطب، تحدت العدوان ودرست تحت أصوات القصف والطائرات وفي أحلك الظروف وأصعبها، لكن لأجل أن يتحقق حلمها تحتاج لمنحة دراسية فوالدها عاطل عن العمل وتسكن العائلة في بيت مسقوف بـ"الزينكو".

"تخطيتُ صعوبات كبيرة، بداية كنت أشتري كروت الإنترنت ولأني ليس لدي هاتف، كنت أستعير هاتف أخي وأجلس عليه للتعلم الإلكتروني، من شدة البرد كنت ألف جسدي بالأغطية في أثناء الدراسة، في حين تصطك أسناني، دائمًا كنت أشجع نفسي على أن أتحمل كل الظروف حتى أحصل على المعدل الذي أريده".

سقفٌ من ألواح "الزينكو" يتوهج أكثر مع حرارة الصيف الحارقة، ويزدادُ بردًا مع فصل الشتاء؛ مكتبٌ بسيط، وحياة معيشية صعبة لم توفر لسماح حتى الحصول على درسٍ خصوصي، معاناةٌ مركبة تجاوزتها أيضًا: "هدا الواضع بخليك تسعى إنك تغيره، فما ضيعت وقتي، ودرست في كورونا، على ضوء الجوال، على أصوات الصواريخ، في الحر، في البرد، وأتمنى أن أحقق حلمي بالحصول على منحة دراسية".

فرحة التفوق بـ97% تنتصر على معاناة التشرد

مهند الجبري يرسم الفرح على بقايا حطام منزله المدمر

يحاولُ مهند التغلب على أصوات الصواريخ الإسرائيلية في اليوم التاسع للعدوان الإسرائيلي، بالقراءة والمذاكرة، لكن لم يكُن هذه المرة صوت صاروخٍ بعيد، بل اتصال من مخابرات الاحتلال تمهلهم خمس دقائق لمغادرة المنزل، أمام مخاوفه المشتعلة وحالة الإرباك التي سادت البيت، وضع كتب الثانوية العامة الأساسية داخل حقيبته وخرج من المنزل تاركًا ملازم وقصاصاتٍ ورقية لم يسعفه الوقت لحملها معه فالمهلة الممنوحة قد انتهت.

على بعد 500 مترٍ رأى مهند الصواريخ وهي تنهال على بيتهم الذي أصبح غير صالحٍ للعيش، وبدأت العائلةُ تبحث عن بيت للإيجار لعدة أيام انقطع عن الدراسةِ، وحينما عثر والده على بيت وأحضروا بعض الأغطية والملابس والفرشات للنوم، أصيبَ بفيروس "كورونا"، واشتدت أعراضها عليه، وأقعدته أيامًا أخرى يصارع أنفاسه المختنقة، يحاولُ جاهدًا التنفس، لكنه تغلب على ذلك وحصل على معدل 97%.

"كانت فرحة جميلة، شعرتُ أنه يجب إدخال الفرحة على البيت بعد القصف، تجمعت العائلة والعمات والخالات"، لم يستقبل مهند التهاني فقط في بيته المستأجر، بل على أنقاض بيته المدمر، هناك تجمع الجيران حوله، في لحظة امتزجت فيها فرحة التفوق ومعاناة التشرد: "حسيت إني بعيش لحظات انتصار على نفسي، على ظروفي، على الاحتلال".

يطفو على حديثه بقايا مشهد خروجهم من البيت وقصفه: "بعدما ابتعدنا تذكرت أن هناك أغراضًا مهمة نسيتها، ولاحقًا حاولت قدر المستطاع الاستعانة بالأصدقاء لجلبها (...) لا يمكن نسيان أيام الحرب وأجوائها الصعبة والمرعبة، التي أثرت فينا كطلاب".

هدف مهند الذي يسكن في الحي الإماراتي بمدينة خان يونس، كان أكبر من أن تحطمه إصابته بفيروس كورونا بعد أيام من انتهاء العدوان "كان الوضع صعبًا، بعدما ظهرت عليَّ الأعراض: صداع، حرارة، عدم تركيز لعدة أيام، لم أستطع فيها الدراسة"، لكن نهض مهند من بين ركام الألم، وتفتحُ عيناه على الأمل، ظهر له من خلف تلال الهموم.

تشعر بابتسامة صوته: "الحمد لله أني تفوقت، وأدخلت الفرحة على قلب أبي وأمي وعوضت حزن فقد المنزل".

مهند الذي بذل جهدًا كبيرًا منذ بداية العام، فوضع جدولًا دراسيًّا بمذاكرة أربع ساعات يومية، مع دروس تقوية بمادة اللغة الإنجليزية، أصيب بالمرة الأولى بفيروس كورونا في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وتغيب عن المدرسة عدة أيام، ثم واصل المذاكرة والاجتهاد، يعوض الأيام التي سرقها العدوان من جدوله والبحث عن بيت يؤويهم مؤقتًا، ثم إصابته بالمرة الثانية بالفيروس، وهذا سره: توفيق الله، والهمة العالية، ومعنوياته وإرادته للوصول لحلمه بدراسة الطب، لكن هذا الحلم تهدده "الظروف الاقتصادية الصعبة".

حلم "يحيى السقا" لم تطله صواريخ العدوان

كما يتسلل خيط النور من ثوب الظلام، وقف على ركام الألم، يتجاهلُ صوتًا داعيًا للتراجع: "خلص عيد التوجيهي تكملش!"، قالها له أحد أفراد العائلة. يحيى السقا الطالب الذي بدأ هذا العام الدراسي بإتمام حفظ القرآن الكريم، وتعرضتْ غرفته الملاصقة لمبنى بنك الإنتاج بمدينة خان يونس للدمار بفعل قصف طائرات الاحتلال للبنك في العدوان الأخير، حصل على نسبة 95% بالفرع العلمي بالثانوية العامة، نالت الطائرات من حجارة غرفته لكنها لم تنَل من عزيمته.

في أول أيام عيد الفطر، عاد يحيى من صلاة العيد وجلس يراجع كتبه الدراسية، تجاهل الرقم الخاص الذي كان يرن على هاتفه، فجاءه ابن عمه بصوتٍ يرتجف: "يلا اطلع من الدار بدهم يقصفوا البنك"، ترك يحيى كل شيءٍ، وأودع أحلامه وأمنياته داخل جدران غرفته، على أمل أن يعود ويجدها سالمًا.

لحظاتٌ صعبة يستهل بها حديثه لنا عائدًا بذاكرته للوراء: "ذهبت لبيت عمي على بعد مسافة من منزلنا، وبعد قصف البنك، عدت إلى المنزل؛ وجدت الدخان يملأ الغرفة المدمرة، وتناثرت الحجارة في أرجائها، احترقت الملخصات، استطعت فقط إخراج بعض الكتب، ولاحقًا استعنت بأصدقائي للحصول على تلخيصات".

"مكثتُ مدة عند بيت شقيقتي، حتى أعادت العائلة تجهيز الغرفة"، عاد يحيى إلى تلك الغرفة بنفسية متألمة، يحاول ترميم حطامها المتهالك داخل قلبه، وإسناده "في لحظةٍ شعرتُ أن الوقت قد بدأ يضيع مني وأن الامتحانات قد أقبلت، لكن لم تكُن النتيجة مرضية له. كنت أطمح لأن أكون بين العشر الأوائل، استغرق الأمر لحظات حتى استوعبت أني حصلت على 95% في الفرع العلمي، وفرحت العائلة بي، وكان الأمر بمنزلة انتصار على الاحتلال الذي حاول تدمير صمودنا، ورغم ذلك سنستمر في مسيرة التفوق والنجاح".