انتهت جولة سيف القدس عسكريًّا وما زالت ارتداداتها تتعاظم، وازدادت التكهنات بالحرب القادمة مكانها وزمانها وأطرافها، في ظل تسابق إعلامي تصعيدي عالٍ عن قرب لحظة الصدام وإرهاصات الاحتدام، مع ترسيخ القناعات بضرورة الوصول إلى نقطة تحول حقيقية في إقليم يموج بالاضطراب وتغير في موازين القوى يُنذر بتغير في المشهد المألوف منذ عقود من الزمن.
لعل "صناعة الخوف" جزء من الفلسفة الأمنية الإسرائيلية للحذر من المستقبل، ولمواجهة سيناريوهات عدة محتملة بما في ذلك نقطة الضعف الإسرائيلي المتمثلة في هشاشة الجبهة الداخلية لذا يطلق الاحتلال التهديدات وكأنه يرسل تهديدًا للأطراف يعبر عن مكنون الخوف الداخلي عبر فلسفة "صناعة الخوف"، ومن هنا يعتقد البعض أن مسألة الحرب واضطرام نارها مسألة وقت لأن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تقوم على عدم البقاء تحت التهديد، رغم اعتماده مؤخرًا أسلوب الحرب الدفاعية، ولم يعد ذلك سرا حيث دشنت سيف القدس مرحلة الحرب الهجومية وسبق بعد العصف المأكول وذكرت في مقال سابق أنها اخر الجولات الدفاعية وأننا أمام نقطة تحول بأن (نغزوهم ولا يغزونا).
والحرب الهجومية التي لا أتوقع أن يعود لها الاحتلال إن تم اعتمادها في هذا السياق فتستهدف إسرائيليًّا إلى إحداث تغيير إستراتيجي واستعادة هيبة الردع والمساهمة في تحقيق أهداف كبرى على غرار تشكيل شرق أوسط جديد. وستراعي الدولة العبرية في هذا السياق إستراتيجيتها العسكرية في تحقيق حسم سريع في حرب خارج أرضها تحقق الإزالة التامة للتهديد، أو حرب "ضمان الانتصار"، وعلى قاعدة بن غوريون "(إسرائيل) مضطرة لخوض الحرب جولات."
ومن هنا راجت شائعات (ربما تكون مدروسة) عن قرب شن حربٍ جديدة على قطاع غزة، خاصة بعد إقرار متزايد بفشل متراكم في مواجهة غزة في كافة الجولات السابقة وعدم تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية، بل زاد البعض في تسمية هذه الحرب، واقتراح سيناريو جديد لهذا العدوان يعتمد على إخلاء المغتصبات المجاورة لغزة وربما الجنوب في ظل تزايد القدرة على تهشيم عسقلان، وضمان تحقق النصر! ويترافق ذلك مع تشديد الحصار وتهديدات صهيونية عالية المستوى، خلاصتها أن "إسرائيل لن تتردد في مهاجمة قطاع غزة في عملية جديدة ستكون أكثر عدوانية وأكثر قسوة".
ضعف وهشاشة رئاسة السلطة وفتح عمومًا وفضائحهم المتكررة في إلغاء الانتخابات واللقاحات و جريمة قتل الناشط نزار بنات، والنزاعات التي تعتري قواها على الوريث، وعدم قدرتها على التوافق الداخلي على قوائم فتحاوية في الانتخابات الأخيرة، وفي ظل الفضائح المتلاحقة التي تطرق باب محمود عباس شخصيًا، يمثل كذلك عنصرًا بالغ التأثير على قرار العدوان والتصعيد حيث الاحتلال يتعامل مع سلطة المقاطعة أنها أحد مكوناته الإدارية والأمنية يبدو متمسكا أكثر من أي وقت مضى ببقاء سلطة تنسيق أمني تحقق أهدافه في ضم الضفة و تهويد القدس وتحافظ على احتلال 5 نجوم ودون فاتورة، مما جعل مؤخرا الأولوية الأولى لدى حكومة بينت حل أزمة السلطة المالية.
إن سيف القدس كان زلزالًا بمعنى الكلمة حيث أحدث حالة تمايز برامجي غير مسبوق، حيث تكشف لكل ذي عينين أن سلطة التنسيق الأمني تمارس تواطؤًا متزايدًا ومكشوفا مع الاحتلال الصهيوني في جرائم مشتركة، والتنسيق كان عالي المستوى في قتل نزار بنات. فضلا عن حجم التواطؤ في ظل قضايا كبرى كالوحدة الوطنية والإعمار والحرص على مصلحة الشعب الفلسطيني، إلا أن السلطة ورئاستها لن تستطيع احتمال زلزالٍ آخر من نفس النوع قد يفضي إلى انهيار السلطة الفلسطينية وإعلان سقوط المفاوضات بشكل نهائي، وسقوط برنامج التنسيق الأمني في الضفة والذي تحرص عليه (إسرائيل) كحجر زاوية في العلاقة مع الفلسطينيين.
وفي سياق منفصل، أثبتت حماس قدرتها على الصمود في وجه الحصار الظالم، والحرب المجرمة، وكذلك قدرتها على بعثرة الأوراق عبر مسيرة متصاعدة من الصمود والقدرة المتزايدة على الإيلام، وكذلك أثبتت قدرتها على الحكم في غزة بحده الأدنى والحفاظ على الاستقرار وتقديم الخدمات لكافة مواطنيها مع تحسن في عدد منها، والقدرة على ضبط الأمور برغم قلة الإمكانات وتواضعها كما أفادت إيكونومست في أحد تقاريرها.
المقاومة تتطور وتتعلم من دروسها وبشكل تراكمي وعبر جولات الصراع أظهرت تطورًا لافتًا (راجع مقال الكاتب في تطور الأداء العسكري للقسام)، واكتسب الشعب الفلسطيني المجاهد الخبرة والقدرة الفائقة على امتصاص الضربات الموجعة والتعامل مع نتائجها في صبر وصمود ومن ثم قدرة على إيلام الاحتلال. وربما تكون المقاومة قد تمكنت من إدخال أسلحة جديدة فضلا عن كثافة النيران التي وصلت إلى مئات الصواريخ في دقائق قليلة وتطوير مدهش للأسلحة محلية الصنع وصلت إلى عياش 250، والتقارير الصهيونية تشير إلى تخوفات من تصاعد قدرات المقاومة وأنها قد بدأت مسار الإخلال بالتوازن.
لقد مثلت "سيف القدس" ومن قبلها جولات العدوان على غزة تعرية غير مسبوقة في التاريخ للعنصرية الصهيونية، مما أدى إلى دعوات متجددة لمقاضاة القادة الصهاينة بتهم جرائم الحرب في غزة كما أفادت مؤخرًا هيومن رايتس وتش، وهو ما يعني تحقق إساءة الوجه "ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة"، وكذلك نزع الشرعية الأخلاقية كمقدمة لسقوط صورة دولة العدو كدولة ديمقراطية أوروبية الثقافة في الشرق الأوسط كما كان يروج لها بن غوريون.
"إن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها في حروبها على غزة" قاعدة حكم متراكمة يتحدث عنها بشكل صريح اهل السياسة من قادة الاحتلال وكذلك أهل الفكر والقلم. علاوة على حكومة بينت المتطرفة وتباين المواقف داخلها "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتي" ما يدفع باتجاه اللاموقف، ولأن فشلًا آخر منتظر سيطيح بالجيش الصهيوني القائم على الأسطورة، خاصة بعد أن أثبتت غزة أن قواعد الاشتباك الصهيونية وكثافة النيران لا تحقق الانتصار ويمكن بناء معادلة على أساسها، مع الانتباه جيدًا إلى أن الكيان الصهيوني سيجري مناورات عسكرية في الجنوب مجددا، بالإضافة إلى القبة الحديدية التي سقطت كالجدر، مما يُشكل حالة هزيمة متزايدة على صعيد الجبهة الداخلية.
ولا ينبغي بحال إغفال التحليلات العسكرية لأهم الخبراء العسكريين الإسرائيليين الذين يؤكدون حاجة (إسرائيل) إلى استعادة الهيبة التي تهاوت على أعتاب غزة مما يبقي الاحتمال بتوجيه ضربة عسكرية جديدة لحماس تستهدف صفها القيادي بشكل جماعي قائمة. رغم أن العدو قد أيقن أن القضاء على حماس بات أمرًا مستحيلًا، ولهذا فربما تكون قيادة الاحتلال أمام استحقاق البحث عن مسارات جديدة صهيونية للتعامل مع حماس. وربما في هذا السياق تأتي محاولة ربط الملف الإيراني بالملف الفلسطيني للقفز على قدرات التحالف الحاكم في دولة العدو، ومن جهة أخرى لتجييش العرب المعتدلين ضد إيران وبالتالي ضد "وكلائها" حسب التسمية الصهيونية، ومن حيثيات هذا التجييش القضاء على حماس، ونسمع أصواتا عربية وأميركية وصهيونية تعزف نفس النغمة، وهي أن "إيران لا تدعم الاستقرار في المنطقة".
أزمة مالية متوقعة في أمريكا، وفشل في لبنان وسوريا، وفي الملف النووي الإيراني، وفي كبح جماح بوتين، وفي الملف الكوري، بين كل ذلك، أميركا تعيش أزمة خانقة في ظل ترنح واضح لقواتها العسكرية في كل من العراق وأفغانستان. الأمر الذي دفع بايدن والإدارة الأميركية وبشكل سريع إلى الانكماش داخليًا وتلتفت لحل أزماتها ولذلك قراراتها الأولى الخروج من مآزق العراق وأفغانستان حتى لو تسلمتها إيران وطالبان، ومن غير المتوقع استدارة أمريكية مفاجئة تتجه إلى منطق مختلف عن منطق القوة الذي ساد في سنوات بوش في التعامل مع العالم. وتعالت أصوات أميركية ومنها يهودية ناصحة بضرورة فرض السيناريو الأمريكي في إدارة الصراع في الشرق الأوسط على (إسرائيل) كي تنجو أميركا من مستقبلها ويتم إنقاذ (إسرائيل) من نفسها كما تحدث "سيغمان" في دراسة سابقة.
وفي الشأن الفلسطيني تعتمد إدارة بايدن سياسة ضغط على عباس الذي يلهث مستجديا الركوب مجددا بقطار مفاوضات تسوية لم يبق من اسمه إلا تنسيقه الأمني. وتسعى أميركا في هذا السياق إلى اعتماد مصر كصمام أمان في المنطقة بالنسبة للمصالح الأميركية بما يخص ملف غزة وحماس.
بعد التطورات المتلاحقة في إثر سيف القدس والتعاطف الدولي والإقليمي مع غزة القادم بقوة إلى الملف الفلسطيني، تخشى مصر في أن تتفاقم الأوضاع في غزة مما يؤدي إلى تهديد أمنها القومي فعليًا في ظل التهديد المروع في سد النهضة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تخشى أن تنسحب الملفات من بين أيديها إلى دولة إقليمية تتقدم بقوة (تركيا). وفي ذات السياق يجب أن نأخذ في عين الاعتبار الحرج جراء الحصار المتفاقم على غزة وتزايد شكوى الغزيين من منعهم من السفر وسوء المعاملة التي يلقونها، في حين انتفض العالم في قاراته وفي قلب واشنطن مع غزة حين شرعت للقدس سيفا مازال أهلها يعيشون معاناة متفاقمة. وبالطبع تعي مصر ما آلت إليه الأوضاع في غزة، وتعي أيضًا أن حماس أصبحت عصية على الكسر، وهي في موقف أفضل من المرات السابقة، بعد الصمود المبهر في وجه الحصار والحرب. وليس بعيدًا بالطبع عن ذلك مسألة سد النهضة والابتزاز الذي تمارسه الولايات المتحدة ودولة العدو الصهيوني بهذا الخصوص، مما استدعى حضورا مصريا غير مسبوق في غزة مع سعي حثيث لتهدئة المسرح السياسي في المنطقة عبر محاولات صامتة لاستئناف المفاوضات مع الاحتلال بالضغط على عباس وإحياء مشروع صفقة تبادل للأسرى جديدة.
في خطوة هروب إلى الأمام، ووفق بعض التقديرات التحليلية، فإن سيف القدس قد تُسرع في الحرب الشاملة، ويمكن أن يُعزز ذلك حدث استثنائي إضافي لا يمكن إغفاله. ومن الممكن كذلك أن نرى تصعيدًا إسرائيليًا على غزة المحاصرة بعنجهية، ولكن شكل التصعيد المتوقع يُتحدد بناءً على الهدف المطلوب تحقيقه، وهو زعزعة استقرار حماس وحكمها دون إرباك في العالم والمنطقة، والتريث لا يعني بالمطلق أن (إسرائيل) أسقطت هذا الهدف الاستراتيجي؛ بل أجلته، لأنه ببساطة لن يكون بمقدور (إسرائيل) شن حرب جديدة احتمالات فشلها عالية، و(إسرائيل) لا تتحمل فشلًا جديدًا، مما سيكون له عواقب وخيمة على الجيش والجمهور الإسرائيلي. ومن جانب اخر، ربما تشن هجوما انتقاميا لاستعادة الهبية على غزة ستكون له تداعيات كبيرة على مخططات ضرب المنشآت النووية الإيرانية وخاصة مع إشارات بهذا الاتجاه بطلب كوخافي موازنة استثنائية بقيمة 90 مليار شيكل يقدر بن مناحيم أنها استعدادا لضرب إيران والتي يتوقع على نطاق واسع أن تنشأ بسببها حرب إقليمية كبيرة وخاصة في حال ردت إيران على العدوان الإسرائيلي. ويصاحب ذلك الخشية الإسرائيلية من اشتعال الجبهة الشمالية خصوصًا في لبنان وسوريا، حيث تشير بعض التقارير الاستخبارية الإسرائيلية إلى أن تزامن الجبهات ودخولها جميعا اتون معركة حاسمة تزايد بشكل كبير في الآونة الأخيرة وخاصة مع رفع مستوى التنسيق بين حماس وحزب الله بشكل لافت.
وسيناريو متوقع عند بعض الخبراء أن تقوم (إسرائيل) كما فعلت في عدوان 2008 بتوجيه ضربة جوية واسعة النطاق إلى قطاع غزة تستهدف كل الصف القيادي والمنشآت والأماكن الحساسة دفعة واحدة مما سيؤدي إلى إرباك حماس تمامًا وشل قدرتها على الصمود والمقاومة، بينما تتزايد المؤشرات الميدانية و التحليلية أن إسقاط حماس بالضربة القاضية لم يعد خيارا وأن فاتورة سقوط غزة لا تحتملها (إسرائيل) بل لعل البعض يذهب أبعد من ذلك أن هذه المغامرة ستكون المسمار الأخير في نعش (إسرائيل) التي ستكون قد تعجلت نهايتها والتي يتوقع مفكروها ألا يزيد عمرها عن العقد الثامن.
ومواجهة مثل هذا السيناريو تتم أولًا بالتوكل على الله تعالى، واعتماد الحكمة العسكرية التي تقول: "إذا أردت تجنب الحرب فيجب أن تستعد لها". مع التركيز بشكل مكثف على أمن الجبهة الداخلية، وجزء من ذلك استمرار الملاحقة المركزة والواعية على العملاء والتي يقدر عدد من المتابعين أنها تراجعت في الآونة الأخيرة، فضلا عن رص الصفوف في غزة لمواجهة أي احتمال، والعمل المنظم والمكثف على فتح القنوات الدولية للاتصالات مع الجهات الرسمية وغيرها، وحشد أكبر دعم شعبي ممكن للمساهمة في رفع الحصار وكسره مرة واحدة وللأبد كاستثمار حقيقي لمعركة سيف القدس.
وربما تكون المحاولات الغربية وحتى الأمريكية المتزايدة للتعاطي مع حماس بداية أسلوب جديد لاحتوائها تمريرا لصفقة القرن، وهذا التحرك كان بناءً على توصيات تقدمت بها عدة مراكز بحثية ومن خلال استخلاصات هامة لنتائج سيف القدس وهذا ليس على قاعدة فتح الباب أمام حماس وإنما لتجريدها من مكتسبات تحققت على مدار 15 سنة منذ فوزها في انتخابات 2006. وبالأساس يذهب هذا السيناريو باتجاه إعادة الشرعية لفريق أوسلو على قاعدة مشروع صفقة القرن وليس على أساس حل الدولتين الذي قبره ترمب ونتنياهو ولا يرغب أو يستطيع بايدن أن يتراجع عنه فالوقائع على الأرض في تهويد القدس وضم الضفة وترسيخ مشروع حكم ذاتي جوهره تنسيق أمني وفريق مقاطعة يختزل الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية في شكل وهمي لسطلة يتوارثها الاباء مع الأبناء.
هل يذهب العدو الإسرائيلي المجرم نحو عدوان مسعور يفتح الباب واسعا ويرتكب حماقات وأعمالا جنونية غير متوقعة قد تتدحرج إلى حرب إقليمية تمثل نقطة تحول في المنطقة والعالم. صحيح أن نسبة هذا التوقع قليلة في ظل حكومة وشخصية بينت الهشة، ولكنها موجودة، ويجب الأخذ بالأسباب. كما قد يتحين الاحتلال الفرصة للانقضاض على غزة وحماس في حال كانت الساحة الدولية والإقليمية تعج بالأحداث، وإذا تم الاتفاق بين جميع الأطراف على إنهاء حكم حماس مهما كان الثمن خاصة في ظل عودة استشعار بعض الأطراف لولادة ربيع عربي جديد أيقونته مجددا غزة ونموذجها الملهم والتي كشفت سوءات عديد الأطراف. وكل التحركات وفق التقدير تصب في سياق الوصول إلى ساحة فلسطينية تختفي فيه حماس تمامًا من المشهد والعودة إلى مسار أوسلو وأنابوليس بمسمى حل دولتين ولكنها هذه المرة دولة فلسطينية وفق خارطة كوشنير وصفقة القرن.