سبعون يومًا مرت، بعد انقشاع غبار العدوان، خرجوا إلى الحياة مرةً أخرى بعد أحد عشر يومًا من العدوان يتجرعون مرارة فقد منازلهم التي طالتها الصواريخ، مرت الأيام ثقيلة عليهم، يرسمون منازلهم المدمرة في ذاكرتهم بكل ما تحفظه من صور وأحلام اختزنتها داخل رفوفها، مروا بظروفٍ صعبة عادوا فيها "للمربع الأول" من الحياة.
لم يملك حاتم غطاس هو وأولاده الأربعة إلا النجاة بأرواحهم لحظة التهديد الإسرائيلي المفاجئ لبرج "أنس ابن مالك" بمدينة غزة خلال العدوان، والنجاة بذكرياتٍ امتدت عبر سنواتٍ طويلة في منزل وضع فيه "تحويشةَ العمر"، فخرج كباقي جيرانه الذين يسكنون في نحو أربعين شقة بالبرج، أفضلهم حمل حقيبةً تضم مستندات أوراق مهمة.
كانت وجهته الأولى بعدما خرج غطاس المكنى بـ"أبو العبد" بيت عائلته، فخرج من بيت العمر الذي رأى صواريخ الطائرات الإسرائيلية تنهال عليه وتفتته وتحيله كومةً من الحجارة، كل ذلك رآه أمام عينيه بعد الابتعاد لمسافة 500 متر ٍ لحظة القصف، حينها ارتجت معها أجسادهم، مشهدٌ ما زال يتكرر يوميًا أمام عينيه.
عاد إلى بيت العائلة الذي غادره قبل سنوات طويلة وكأنَّ عجلة الحياة عادت به إلى "المربع الأول" عاد بلا أثاث وقطعٍ منزلية اشتراها مع زوجته وأولاده قطعةً قطعة، لكل واحدة قصة وحكاية اختزنها في ذاكرته، بلا مأوى وبلا ملابس.
سبعون يومًا من المعاناة يحرك تفاصيلها بتنهيدة تحملها أنفاسه استهل بها حديثه لصحيفة "فلسطين": "الحمد لله على كل حال، المعاناة الأكبر إنه تشوف بيتك اللي حطيت فيه كل ما تملك يروح هيك بغمضة عين".
بدأت رحلة التشرد بعد قصف منزله في بيت العائلة، لكن المكوث لم يكن طويلا، "لم أمكث أكثر من ثلاثة أيام، رغم أن الأهل رحبوا بنا ويقدرون أوضاعنا، لكني لدي أبناء شبابًا بعضهم في الجامعات يلزمهم غرف منفصلة للدراسة، فكان الحل التوجه لاستئجار بيت، فكانت هي مستقرنا منذ تلك اللحظة".
جدران فارغة
جدران فارغةٌ يرتد منها صدى صوتك، غرفٌ كثيرة، مساحاتٌ واسعة، هكذا سيكون الحال عندما ستنتقل إلى بيت بلا "عفش"، فبدأ غطاس رحلة أخرى في شراء الأغراض الضرورية لتملأ المساحات الفارغة من ملاءات وأغطية وفرشات يذاكر عليها أبناؤه الذين كانت لهم مقاعد مخصصة للدراسة في المنزل السابق.
في صوته يتجمع القهر حينما مرت صورة منزله المدمر أمام عينيه ويتجلى في كل تفاصيله: "حينما تشاهد بيتك الذي تركت فيه ذكريات توجد في كل ركن فيه، ألعاب أطفالك، شهادات ووثائق جمعتها على مدار أربعة وعشرين سنة، فجأة تحترق وتتبعثر، ترى حلمك هكذا يدمر".
الوجع الذي شعر به يتجسد في صوته هنا، "حُلْمُنا في المنزل الآن أصبح في الخيال، أصبحنا أقل من الصفر، والآن نتعلق بأمل الإعمار أن نعود في يوم من الأيام لنسكن في منزل سيبنى فوق حطام بيت العمر".
يأمل "أبو العبد" وغيره من المتضررين والمشردين الذين قصفت منازلهم أن تتسارع عجلة قطار الإعمار، وتتنقل من محطة إزالة الركام التي انتهت في أغلب المواقع المدمرة، إلى محطة يرون فيها القواعد والأعمدة تصعد نحو السماء، حتى "تعود الفرحة إلى قلوبهم"، وألّا يكون مصيرهم كمصير الحروب الأخرى التي تأخرت فيها عمليات الإعمار كثيرًا.
باستثناء إيجار لمدة ستة أشهر دفعته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" له، اشترى غطاس كل الأغراض في منزل الإيجار من راتبه، وهو ما زاد المسؤوليات عليه، فالتزامات المنزل المدمر المتراكمة لم تنته بعد.
في شارع الوحدة بمدينة غزة، ينتشر العمال في الشارع والشوارع الفرعية المحيطة في رص الحجارة الصغيرة لتعبيد الطريق بعدما انتهوا من مرحلة إصلاح خطوط المياه والبنية التحتية كحلول مؤقتة بانتظار البدء بمرحلة الإعمار، في الأعلى يقوم العمال بطرق جدران برج "الداعور" وتكسير أسقف الطوابق العلوية فيه بواسطة أدوات هدم يدوية، بعدما فُرِّغ البرج المائل بفعل القصف الإسرائيلي على شارع الوحدة خلال العدوان الأخير في مايو/ أيار 2021 من ساكنيه وانضمامهم إلى جيش المشردين.
مقابل برج الجوهرة بمدينة غزة، قبل أسبوع احتفى ممدوح الخزندار بافتتاح محله للمأكولات الشعبية الذي انتقل إليه قبالة محله القديم الذي طاله دمار كبير خلال قصف الاحتلال برج الجوهرة، لكن فرحة الخزندار بهذا الافتتاح والعودة للعمل بعد شهرين من التعطل لم تكتمل، إذ مرجح أن تبدأ عمليات هدم برج الجوهرة الذي سيغلق المنطقة بالكامل عدة أشهر مما سيؤثر في حركة الناس ومن ثم حركة الزبائن.
انتظار دون جدوى
"انتظرنا شهرين على أمل أن يتم التعويض ويبدأ الإعمار، لكن دون جدوى فاستأجرنا مكانا جديدا مقابل المحل المقصوف على نفقتنا الخاصة، لأن التعطل ووقفة الحال أصعب من الدمار"، يقول الخزندار لصحيفة "فلسطين" وهو ينظر إلى محله المدمر الذي لم يستطع ترميمه: "لم نستطع ذلك لأن بنيته التحتية مدمرة بالكامل من سباكة، وشبكة كهرباء".
وكأن المعاناة تأبى إلا أن ترافق هذه العائلة التي تعتاش على دخل المحل منذ 24 عامًا، يحدق ببرج الجوهرة وقد غلبته ضحكة عابرة، فرد كفيه للأعلى بلهجة عامية: "احنا متوقعين أقل شيء ست شهور تضل أعمال الهدم".
يضرب مثلا شعبيا يجسد حاله: "تبكيش على اللي راح ماله ابكِ على اللي وقف حاله".
يستذكر معاناته الفترة الماضية: "حدِّش حكالنا خدوا شيقل، وما قدرنا نضل قاعدين فاتحين أيدينا للهوى".
لكن ما يصبره أن هناك مستويات في الفقد، فالنجاة بالروح رغم كل ما خسره أهون من فقد "روح ومال" كحال عائلات كثيرة طالتها يد العدوان، بعضها مُحِي من السجل المدني.