بداية، إما أن يكون لنا جواز سفر بحق وحقيق أو لا يكون.
وكما أن لنا هوية وانتماء للجغرافية الفلسطينية يجب –بكل تأكيد– أن يكون لنا جواز سفر، يصدر عن جهة فلسطينية مسؤولة، تعرف ماهية الجواز ومواصفاته، والهدف من وجوده، والحاجة إلى حمله.
وقد أكد "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948" لدى صدوره حق الإنسان في حمل جواز سفر يُمَكِّنُه من التنقل والسفر بين البلدان، كما الكثير من الحقوق التي تَضَمَّنها الإعلان، في مواده الثلاثين، التي تبنتها الأمم المتحدة، اتساقاً مع أحكام القانون الدولي، والشرعية الإنسانية.
وهكذا فإن "منظمة التحرير الفلسطينية"، وهي في أسوأ حالاتها بصفتها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني تتمتع باعتراف نحو 150 دولة، أي أكثر من الدول التي تعترف بدولة الكيان الصهيوني.
وبالتالي لماذا لم يَدُر ببال من أسسها واحتضنها، أن تصدر جواز سفر باسمها لرعاياها، البالغ عددهم اليوم نحو 14 مليونا يتوزعون على أشلاء الوطن المحتل والمضيع والشتات والمنافي البعيدة والقريبة، و"المكتومين".
تساؤل ربما نتجاوز الإجابة عنه بحكم أن القضية برمتها قد حُرم الشعب الفلسطيني من تبعات أوزارها، في ترتيب أوضاعهم الاجتماعية وجميع شؤونهم الحياتية. ولعل السفر والتنقل "رياضة كمالية" لا يحتاج إليها الفلسطيني اللاجئ والمُشتت، كما ارتآه "القادة العرب الذين فرضوا سياساتهم ومعالجاتهم "القاصرة والغاشمة" على الشعب الفلسطيني، وتنظيماته، منذ أيام الوطن قبل نكبة 1948، ومن ثم على أشلاء في الضفة الغربية، وغزة، وانتهاءً بما نحن فيه من شتات، في كل أصقاع الأرض.
لا يا سادة
إلى هؤلاء السادة "المُبَجَّلِين": إنه من نافل القول أن نتحدث عن حق كل الكائنات البشرية في حرية الحركة، والسفر – منذ أقدم الأزمنة – بحثا عن الرزق، أولا، وطلب الأمن والأمان، ومتطلبات الحياة، ثالثا، ورابعا.. إلخ.
يا سادة العصر والزمان، ويا من تتولون الشأن الفلسطيني، إن الفلسطينيين في العصر الحديث – قبل الاغتصاب الصهيوني والاستعمار البريطاني لفلسطين، كانوا في طليعة أبناء بلاد الشام، في الهجرة والارتحال - حتى إلى الآفاق البعيدة – إلى الأمريكيتين وجزر الكاريببي منذ منتصف القرن التاسع عشر، شأن بقية إخوانهم في ديار الشام، وذلك تحت مؤثرات لا داعي للخوض فيها الآن، وقت لم تكن بلادهم مستهدفة بالغصب والسلب.
أما ونحن على الخريطة العربية – كقضية تزلزل الدنيا، وشأن له ماله من متطلبات وأمنيات، تلح علينا أن نتحرك، ومن هذه الحركة ما يأخذنا إلى "أشلاء" وطننا، مهما كانت أوضاع هذه الأشلاء "المحاصرة صهيونيا وغباءً عربيا، قارب الصهيونية تماما وتآخى معها، بما لم يكن في الخيال.
تذكروا يا سادة
يُذكر أن حكومة فلسطين البريطانية قد وفرت لنا جواز سفر، عبر ثلاثين عاما (1918 – 1948) شأن مستعمراتها عبر العالم، ومع أنها دولة استعمارية عدوة، فإنها احترمت حاجتنا لجواز سفر يمكننا من السفر والتنقل باحترام، ويحمل مناشدة ذوي الشأن برعاية وتسهيل مهمة حامله، وإلى جانبه رديف دبلوماسي، للنخب والقيادات العليا، إضافة إلى وثائق مرور محترمة (laissez Passer ليسي باسي)، تُصرف مؤقتا لتصريف أمور بعض الحالات.
وبالأمس القريب –وحرب 1948 لم تضع أوزارها بعد– أوعزت (الهيئة العربية العليا لفلسطين) بقيادة (المرحوم الحاج أمين الحسيني) (لحكومة عموم فلسطين) لدى تأسيسها في غزة في كانون أول / ديسمبر 1948 برئاسة المرحوم أحمد حلمي عبد الباقي، أن تصدر جواز سفر، باسم هذه الحكومة، بشكليه العادي والدبلوماسي، ليعوض فقدان جواز حكومة فلسطين الانتدابية الآنف الذكر. وقد كانت طبعته الأولى من 63 ألف جواز بكل المواصفات للجوازات المحترمة، لم تتنكر لها إلا إمارة/ مملكة شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية) في عهد مؤسسها عبدالله بن الحسين، التي ناوأت حكومة عموم فلسطين، واختطفت الضفة الغربية لفلسطين، بالتآمر مع بعض قيادات الضفة، في مناوأتها للهيئة العربية، ولحكومة عموم فلسطين.
"حكومة عموم فلسطين" التي تلفعت بعباءة جامعة الدول العربية، سرعان ما وَضَعَت أشكالاً من "وثائق سفر" سرعان ما غَدَت مشكلة ومسخرة ممن يحملونها، وأن البعض ممن أصدروها كانوا أول مُعَرْقِليها، ومسببي المشكلات لحامليها، في حين تحمل في صفحتها الثانية رجاءً لذوي الشأن بتسهيل مهمة حاملها، في حين تحمل في صفحتها الأخيرة تحذيرا أو أكثر، بعدم السماح لحاملها بالمرور عن دولة الإصدار أو الدخول إليها إلا بشروط والتواءات تتناقض مع ما جاء في الصفحة الثانية، ناهيك بمشكلات التجديد والاستبدال المبالغ فيها إلى حدود التعجيز والقرف.
هنا لا بد أن أستثني وثائق السفر التي أصدرتها سوريا، وذلك حتى يكون الحديث دقيقا وأمينا.
وحسبي أن أذكر –على سبيل المثال– أن سفارات سوريا في الخارج، قد خاطبت الجهات المختصة في بعض الدول، أن تتعامل مع وثائق السفر الصادرة عن سوريا، بمثل ما تتعامل به مع جوازات السفر السورية تماما، وقد تأكدت من هذا الصنيع الرائع، في دولة الإمارات العربية المتحدة، في إثر بعض الإشكالات المتعلقة بأحداث الخليج، وبعض الدول العربية.
أما من الناحية القانونية التي اسْتَنَدَت إليها الدول المصدرة لهذه الوثائق، فقد عدت حامليها (دون جنسية State less)، أي مثل وضع النَّوَر أو الغجر، أو الـ (دون أوHome less )، كل حسب تقييمها ونظرتها لمجمل متعلقات القضية.
ومن جهة أخرى كان لا بد من التنبيه إلى أن الأردن قد تعامل مع أبناء الضفة الغربية، واللاجئين إليه بصفة "أردنيين"، وقد حملوا هذه الصفة مع الهوية والجواز، وكل الثبوتيات التي تحدد جنسيتهم على أثر ضم الضفة إلى الأردن عام 1948، وتحريم الانتماء لفلسطين (أردنيين وبس). إلا أنه قد تم إصدار جوازات سفر أردنية مؤقتة لمدة سنتين، وذلك في أعقاب حرب "النكسة" 1967، في إثر نزوح الآلاف من فلسطينيي قطاع غزة آنذاك، ومن العجب أنه قد تم التعامل معهم –وحتى في بعض الدول العربية- كأنهم (دون جنسية) شأن حملة الوثائق المشؤومة التي أشرنا إليها.
ملهاة أوسلو
بعد انتهاء صلاحية "الهيئة العربية العليا لفلسطين، وحكومة عموم فلسطين التابعة لها" رسمياً عام 1964، وظهور منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني توقف إصدار جواز سفر (حكومة عموم فلسطين) الذي لمّحنا إليه، والذي سَدَّ خانة كبيرة من العمل الفلسطيني، بعد النكبة 1948 إلى جانب الهوية، التي كانت تحت مسمى ( جمهورية فلسطين، وخريطة كل فلسطين) كأول عمل ذي شأن في تعاريج التعامل مع القضية، سياسيا وتاريخيا وثقافيا، إلى غير ذلك.
وهكذا ظلت الأحداث تباعاً، إلى أن حلت "مأساة أوسلو 1993" التي جاءت مع جواز "فلكلوري" لثلاثة ألوان (عادي – دبلوماسي – "ونَوَرِي")..
وأعني بـ" لنَوَرِي" هنا "الجواز المصفر" الذي يحمل ترقيمه، ثلاثة أصفار عن يساره.
هذا الجواز تصدره "سلطة أوسلو"، كأنها تتبرأ من تبعات إصداره، يحمل عبارة "الرجاء تسهيل مهمة حامله" كالمعتاد، كما يحمل صلاحية السفر إلى كل دول العالم، إلا أن حامله لا يدري أنه كَمَنْ يحمل لغماً قابلا للانفجار به لدى توقفه في المطارات والمعابر على أنه "غير رسمي"، وأنه خارج إطار أوسلو، وأن حامله دون هوية، من صنع (إسرائيل)، إلى غير ذلك من صيغ الاستهبال واللف والدوران! وفي الأخير تبدو السلطة في رام الله وكأن لا شأن لها بما يحدث!
إن الفلسطينيين "المساكين" حملة هذا الجواز يتفاجؤون في بعض المطارات والمعابر الحدودية باحتجازهم وإعادتهم من حيث أتوا، بعد تعرضهم لتحقيقات وأسوأ تساؤلات، وكأنهم من أعتى المجرمين.
يجب إيقاف هذا الجواز
في الحقيقة إن بعض السلطات الحدودية في بعض الدول العربية، التي لم تعترف بأوسلو ومخرجاتها، وجوازها، تضع في اعتبارها العامل الإنساني، وتُغَلِّب لغة العقل والضمير، فتتعامل مع حامل الجواز بصفة إنسانية، وتمنحه سمة الدخول أو المرور على ورقة خارجية، حتى لا تتعامل مع هذه "المسخرة" التي لا تعترف بها!
وعليه فإنه قد بات على السلطة في رام الله مراجعة موقفها من هذه المسألة، بالتوافق على حل عاجل لهذه المأساة، وإلا إيقاف صرف هذه الجوازات "المهلهلة" والبحث عن حلول توافقية مع بعض الأنظمة الغربية، ذات المواقف السلبية في هذا الشأن.
وقبل الختام أقول: توجد حيل وحلول قانونية كثيرة يمكن أن تُنقذ الموقف يستطيع الحقوقيون الحاذقون إيجادها، والتعامل بها، إذا ما عُدَّ أن جواز السفر وحرية التنقل أمران تكفلهما حقوق الإنسان في كل زمان ومكان.
هذا وأتوقف هنا عن الكتابة، ليبقى الأمر مفتوحاً حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وذلك برسم السلطة في رام الله، والنظام العربي العتيد.