إن احتلال فلسطين وصناعة الكيان الصهيوني المسمى (إسرائيل) هو الهزيمة الأولى للأمة الإسلامية ومنها العربية منذ مطلع القرن العشرين، هذه الهزيمة كانت بداياتها عندما بدأ العرب والأتراك يقتتلون تحت راية التجزئة ورايات غير وحدوية، دق إسفينها الغرب الاستعماري، وفي مقدمته بريطانيا وفرنسا الحقودتين، ومن أشد وسائلها اليهودية السياسية الصهيونية واعتماد الفساد والإفساد وسياسة (فرق تسد)، فكانت الهزيمة الكبرى انهيار الدولة العثمانية الممثلة لمفهوم دولة الخلافة الإسلامية، لكونها دولة وحدة الأمة، فحل محلها الأنظمة العلمانية في البلاد العربية والإسلامية، وأقيمت دول التجزئة تحكمها النظم والأفكار التغريبية، وحُيِّدَ النظام السياسي في الإسلام، وباحتلال فلسطين احتدمت المعركة الحقيقية، لأن الحقيقة أن احتلال فلسطين هو الخط الأول في الصراع بين المشروع الإسلامي الوحدوي مع المشروع الاستعماري الغربي الإمبريالي وحليفه اليهودي السياسي الصهيوني.
ولأن فلسطين هي مركز الصراع بين المشروعين (فلسطين مركز الصراع بين الحق الذي يمثله المشروع الإسلامي ومنه العروبي وبين باطلهم الذي يمثله العدو الاستعماري الغربي والصهيوني الذي يمثله الكيان الصهيوني المسمى (إسرائيل)، حَضَّر الباطل لاحتلال فلسطين، وما كان له أن ينجح إلا بإنهاء الدولة العثمانية الممثلة لدولة الخلافة الإسلامية.
وفي هذه الفترة التي نعيشها الآن يتجنى الكثير من المتخندقين الداخلين في حالة الوضع الداخلي للأنظمة العربية المتماهية مع سايكس بيكو على الدولة العثمانية وتاريخها ويركزون على فترة حالة الضعف الأخيرة للدولة، متناسين قوة الدولة الممثلة لوحدة الأمة الإسلامية، ومنها العروبية لعدة قرون ومحاولات الإصلاح التي قام بها الخلفاء سلاطين الدولة العثمانية،، وكان أشهرهم في أواخرها السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، الذي أجزم بأنه من أسباب خسارة (ملكه) عدم تخليه عن فلسطين وعاصمتها القدس.
من الحقائق أن فلسطين بعد معركة مرج دابق بقيادة السلطان سليم الأول دخلت في ظل الدولة العثمانية، واستمر أكثر من ٤٠٠ عام لغاية عام ١٩١٧، وتؤكد المصادر التاريخية خلال حكم الدولة العثمانية لبلاد الشام وفلسطين خصوصا، لم يجبر أحد على تغيير دينه أو لغته، وكانت الوظائف لكل رعايا الدولة دون استثناء أو تمييز ولو كان غير مسلم وخصوصا المسيحيين العرب وغير العرب أحيانا تسلموا الوظائف ومنها العليا.
ولكن بعد بوادر ضعف الدولة واكتشاف الثروات الطبيعية في البلاد خصوصا البلاد العربية، طمعت الدول الاستعمارية الأوروبية الطامعة في الثروة، فحاكت المؤامرات والدسائس للسيطرة على دولة العدالة، دولة المسلمين، ومنهم العروبيين، فعملوا على سياسة فرق تسُد، إلى أن وصلوا إلى هزيمة الدولة العثمانية، وقسمت البلاد وزرعت الفرقة والحقد والكراهية بينها، توهم هذا أنه صديق لها وتوهم الآخر تارة أخرى وفي الأصل أنها تزرع البغضاء والعداوة بين المسلمين والعروبيين، وأشعلت الفتن وثبتت التجزئة وهيأت صناعة كيان حليفتها الصهيونية ما سمي (إسرائيل). وما كان لها إلا بالدسائس وإضعاف الدولة العثمانية التي وقف سلاطينها بكل ما أوتوا من قوة لمنع إنشاء هذا الكيان.
فقد سهلت القوى الاستعمارية الأوروبية الحاقدة انعقاد مؤتمر الحركة الصهيونية الأول في مدينة بال السويسرية عام ١٨٩٧، فقد حاول هرتزل مد الخيوط مع السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله عن طريق اليهودي التركي نيولنسكي مستغلا الأزمة المالية المتفاقمة للدولة العثمانية في ذلك الوقت، لأنه لا يمكن له مقابلة السلطان، وكان يخشى ذلك فلم يجرؤ فأرسل هذا اليهودي بطرق ملتويه وخبيثه حتى وصل إليه وعرض رسالة هرتزل التي فحواها تقديم ٣٥ مليون ليرة ذهبية مقابل السماح بإقامة ملاذ لليهود في فلسطين، فكان رد السلطان رحمه الله كما نقله نيولنسكي وكما دوّن هرتزل في مذكراته: (قال لي السلطان: إذا كان هرتزل صديقك فانصحه بألّا يسير أبدا في هذا الأمر... لا أقدر أن أتنازل عن قدم واحدة من البلاد، إنها ليست ملكا لي بل هي ملك شعبي).
لا بد للباحثين عن الحقيقة أن يدرسوا ويحللوا الحقبة التاريخية للدولة العثمانية التي توصلهم إلى حقيقة الموقف المبدئي للسلاطين العثمانيين الرافضين لأي خطوة أو وسيلة تمكن اليهود الصهاينة أو تؤسس لإقامة كيانهم، والذي سهل ذلك هم المرتبطون بالعدو الخارجي الاستعماري، خصوصا البريطاني والفرنسي، وساعدوا في محاولات فكرة التعايش وبناء مدخل لليهود بإنشاء كيانهم، كتسريب أراضٍ بأساليب جلها نصب واحتيال وتزوير ما استطاعوا، وباؤوا بفشل ذريع لم يستطيعوا إلا بجزء يسير جدا وما ينشر غير ذلك هو كذب وافتراء، والوثائق المدعوم صحتها تؤكد ذلك، ولو كان بها صدق لأقام العدو الصهيوني الدنيا وأقعدها.
وأكد اليهودي الصهيوني حاييم وايزمان في مذكراته، عدم قدرة اليهود في ظل الدولة العثمانية (دولة الخلافة) الحصول على تصريح يعطيهم أي شرعية من أي نوع لإقامة كيانهم، فكان إجمالي عددهم في فلسطين حتى نهاية الدولة العثمانية لم يكن يزيد على آلاف قليلة (كما تشير إليه المصادر الموثقة)، فكانوا ضمن النسيج السكاني بصفتهم مواطنين، وليس من ضمن مناطق لها نوع من الاستقلالية أو الحكم الذاتي أو خارج إطار القانون العام.
وبمراجعة لمركز نوث بوينت في دراسة (النظام العالمي الجديد) قال إن جر الدولة العثمانية إلى الحرب العالمية الأولى كان من أهم أهدافها هو التمكين لإقامة كيان يهودي في فلسطين، وقد عملت اليهودية الصهيونية بكل ما أوتيت على إقناع الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت تغيير موقفها المعلن عدم تأييد وعد بلفور، حيث يقول الصهيوني وايزمان في مذكراته (إن زعماء اليهود جوبهوا برفض الرئيس الأمريكي ويلسون تأييد بريطانيا بوعد بلفور، والرفض على أساس أنه صاحب فكرة عدم الاعتراف بأي معاهدات سرية، وأن أمريكا ليست في حالة حرب مع تركيا.
ولكن جماعة الضغط السياسي اليهودية الصهيونية استطاعت أن تغير موقف الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تقاطع مصالح الغرب الاستعماري الإمبريالي والولايات المتحدة الأمريكية مع جزء من هذه المصالح، فأبرق الكولونيل الأمريكي هاوس إلى الحكومة البريطانية في ٢٦ تشرين الأول عام ١٩١٧ مؤيدا لها، وشارك في اجتماع وزارة الخارجية البريطانية يوم ٢ تشرين الثاني عام ١٩١٧ الذي أعلن وعد بلفور المشؤوم.
إن الخلاصة أن إدارة الدولة العثمانية (الخلافة) التي كانت في أواخر عهدها في حالة ضعف في كل أرجائها لم تستطع الدول الاستعمارية فرض إقامة صنيعتها الكيان المسمى (إسرائيل) في ظل وجود الدولة العثمانية، فلولا هزيمة الدولة العثمانية وإنهاء نظام الخلافة الإسلامية من الواقع السياسي الدولي لما ضاعت فلسطين من نتائج الحرب العالمية الأولى.
لولا إنهاء الدولة العثمانية (دولة الخلافة) لم يستطع الغرب الاستعماري الإمبريالي الحليف الاستراتيجي للعدو الصهيوني المسمى (إسرائيل)، فرض قراراته وهرولة وموافقة النظام السياسي العربي المتماهي مع سايكس بيكو على قرار التقسيم، مرورا بقرارات ٣٣٨، ٢٤٢، وصولا إلى التسويات ومنها سراب حل الدولتين ومعاهدات التصالح كامب ديفيد ووادي عربة، ومفاوضات التفريط واتفاقيات الدنية، وفسوق منظمة التحرير عن التحرير الشامل لفلسطين، واللهث وراء خط مفاوضات الدنية، والتمسك بالاتفاقيات الموقعة بين منظمة كانت منظمة تحرير عندما كان دستورها الميثاقان القومي والوطني الفلسطيني والمنطلقات الأساسية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني، فكانت عند توقيعها اتفاقية أوسلو الكارثة فسوقًا عن التحرير الشامل والقبول بفتات غير سيادي إن كان هناك فتات يمكن أن يقدمه العدو الصهيوني المسمى (إسرائيل).
فلا خيار إلا خيار المبادئ، وأن الوحدة هي العمق الاستراتيجي لصد المشروع الاستعماري الإمبريالي وصنيعته (إسرائيل)، والاستمرار في خط الجهاد والمقاومة لتحرير فلسطين كل فلسطين عنوانا لوحدة الأمة الإسلامية والعروبية ونهضتها، والله تعالى حتما سيتم وعده بالنصر القريب.