بعد أن أفرغت شرطة الاحتلال في القدس بالقوة المسجدَ الأقصى من معظم المرابطين فيه، اقتحم المئات من المستوطنين الصهاينة ساحاته، وأدوا صلوات تلمودية فيها، صباح يوم أمس الأحد 18/7/2021، في ذكر ما يسمى (خراب الهيكل)، وسط مواجهات في ساحات الأقصى وعلى مداخله مع من تمكن من البقاء فيها من مرابطيه، الذين تعرضوا للقمع والاعتقال.
سيبدو الأمر من زاوية ما تراجعاً عن معادلة منع الاقتحام التي تثبّتت عشية معركة سيف القدس في الثامن والعشرين من رمضان، بجهود المقاومة في غزة، واستناداً إلى ثبات المرابطين ودفاعهم الجسور عن المسجد الأقصى، حيث كانت أعداد كبيرة من المرابطين معتكفة لأيام عديدة فيه من مختلف أنحاء القدس والضفة الغربية وأهل الداخل الفلسطيني، وقد ساهمت أجواء رمضان حينها في عامل التحشيد وتكثيف الحضور.
وسيبدو الأمر من زاوية أخرى مغامرة غير محسوبة العواقب من حكومة الاحتلال الحالية، التي تريد أن تثبت بكل السبل أنها أكثر تطرفاً وقوة من الحكومة السابقة، وقادرة على إباحة كلّ المحرمات التي امتنعت عنها سابقتها، وعلى تجاوز جميع التخوّفات التي حدّدت سياسة سالفتها، وخصوصاً في التعامل مع ملفي القدس وغزة.
أما الزاوية الثالثة فتحدد مسؤولية مباشرة لسلطة محمود عباس في الضفة الغربية عن كل التراجعات الحاصلة، ليس فقط لأنها عجزت عن تحريك أي فعل شعبي لمواجهة الاقتحام الجديد، بل لأنها اجتهدت وسعت منذ توقف جولة المواجهة الأخيرة مع الاحتلال إلى إفراغ كلّ إنجازاتها من مضامينها، وعلى إعادة نمط التراجع العام على مختلف الصعد، وكانت سياساتها القمعية الانتقامية التي بلغت ذروتها باغتيال نزار بنات، ثم تفاعلات الحدث اللاحقة، مساهِمةً أساسًا في تخذيل الجمهور وضرب معنوياته الوطنية، التي كانت قد بلغت أوجها خلال معركة سيف القدس وبعدها.
صحيح أن هناك بؤر مقاومة شعبية في الضفة ظلّ فعلها ماضياً، وهي تستظلّ بالدفعة التعبوية العالية التي صنعتها المعركة وتفاعلاتها، إلا أننا لا نستطيع افتراض إمكانية حدوث ثورة أو هبة وطنية عارمة وشاملة في وجه المحتل وسياساته الاستيطانية والتهويدية في الضفة الغربية والقدس في وقت تتناوش الناشطين والفاعلين في هذه الميادين حرابُ سلطة محليّة، تستهدف روحهم وتروم كسر عزمهم وتركيعهم، وإن ما جرى في الميادين من قمع وسحل واعتقالات لا يمثل غير الجانب المحدود المرئي من مشهد واسع وحافل بكل الوسائل الخسيسة التي انتهجتها السلطة وأجهزتها لتوهن عزائم الناس، كالتهديد والفصل الوظيفي والنقل التعسفي والاستدعاءات للتحقيق والتشويه والافتراء، إضافة إلى العودة للضرب والتعذيب في سجونها، وكأنما أرادت أن تصل رسالتها هذه المرة بكل فجاجة ووضوح، وهي أنه غير مسموح للضفة الغربية أن تخرج عن نسق الأمر الواقع المفروض عليها منذ خمسة عشر عاما، لأن هذا ما تقتضيه المصلحة الإسرائيلية أولا، وما يلزم لاستمرار السلطة ثانيا.
حكومة الاحتلال بدورها لن تنسى للسلطة هذا المعروف، والأخيرة ستظل معنية بإثبات أنها الأجدر بحماية جبهة الأمن الصهيوني، ومن ثم الأجدر بالدعم والتثبيت، وهو ما فهمته الإدارة الأمريكية التي سارعت لإطلاق تصريحات مغازلتها المعروفة، بشأن ضرورة دعم السلطة، لعلمها أن تصريحات من هذا الطراز كفيلة بإسالة لعاب المتنفذين و(هباشي) الأموال في قيادة السلطة، وإطالة هراواتهم المشرعة على رقاب وظهور الفلسطينيين.
يدّعي قادة حركة فتح وهم يطلقون تهديداتهم للفلسطينيين في كل اتجاه أن استمرار الاحتجاجات على قمع السلطة يشغلها عن مواجهة الاحتلال، وهي مقولة بالية وصفيقة، ذلك أن الحقيقة أن هذه السلطة بطبيعة دورها وسياساتها المختلفة تشغل الفلسطينيين عن كل مسار إيجابي، وتفتت جهودهم، وتحدّ من مراكمة إنجازاتهم، وتحول دون انصهار حركتهم الجمعية بقوة لتدافع عن حقوق الفلسطينيين وتحمي مقدّساتهم.