فلسطين أون لاين

​متى ستبعث العنقاء من جديد؟

...

عاشرت الفلسطينيين في مراحل مختلفة من حياتي. التقيت بهم في الشتات وعشت بينهم في مدنهم المحتلة؛ في غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية. ورأيت بأم عيني كيف يعيشون حياتهم، محاطين بقيود شتى كالحواجز والتضييق على حرية الحركة. ورأيت كيف يفقدون أراضيهم وتهدم منازلهم.

اسمي كريستيان كاردون، قضيت السنوات العشر الأخيرة في مجال العمل الإنساني، عملت في أكثر المناطق عنفًا على هذه المعمورة. أشغل حاليًا منصب مدير بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القدس والضفة الغربية. وكنت قبل ذلك مديرًا لمكتبها في غزة.

كانت الشهور الخمسة عشر التي عشتها في غزة كفيلة بأن أتعرف على أهلها وأرضها، مررت بمزارعها، أكلت من محاصيلها، جلست مع فلاحيها في أراضيهم التي منعوا من الوصول إليها لأكثر من عشر سنوات، تلك الأراضي التي دمرتها الاعتداءات العسكرية وجرفتها.

رافقت الأمهات والآباء أثناء رحلتهم الطويلة لزيارة أبنائهم في السجون الإسرائيلية، تحدثت الى أمهات شابات لا يمكن مقارنة مفردات أطفالهن بمفردات أمثالهم في الغرب. قضيت ساعات طويلة في الحديث مع السلطات لتسهيل استصدار التصاريح اللازمة لمرضى في حالة حرجة يسعون لمغادرة غزة بحثًا عن فرصة للبقاء. صافحت مئات الأيدي، رأيت كيف امتزجت نظرات اليأس والأمل في عيون أصحابها.

لن أنسى نظرات الصدمة على وجه طفل قابلته في أعقاب الأمطار الغزيرة في ديسمبر من عام 2013. جعلت الفيضانات من واقع سكان غزة الهش والمضطرب أصلًا أكثر بؤسًا في ظل الإغلاق والنزاعات المتكررة.

أذكر صيف 2014 أثناء عملي في غزة كواحد من أكثر الأوقات العصيبة في حياتي. الفوضى السائدة أثناء النزاع، وصرخات الجرحى، وأصوات الانفجارات، ما زالت تطاردني. على مدار 51 يومًا من القتال العنيف عملت والفريق على مدار الساعة، وصلنا الليل بالنهار لإنقاذ الأرواح، وإجلاء من استطعنا الوصول إليهم من المدنيين، وإصلاح شبكات المياه وإعادة خطوط الكهرباء.

في يوليو 2015 بينما كنت في القدس، اندلعت موجة جديدة من الدهس والطعن وأوقات من الخوف وعدم اليقين، فقد تكون في المكان الخطأ في الوقت الخطأ ليحدث ما لا يحمد عقباه. خشي الناس التحرك. لم نجزع ولم توقف اللجنة الدولية عملياتها، وإنما واصلنا التنقل بين القدس ومكاتبنا في الضفة الغربية.

كنت قد سمعت عن الجدار في الضفة الغربية، ولكن رؤيته ماثلًا أمامي قصة أخرى. تخيل جدارًا بارتفاع ثمانية أمتار، يقطع الطريق الذي تسلكه للذهاب للعمل كل يوم، أو الحقول التي تقطعها لرؤية والدتك. هذا هو الجدار الفاصل في الضفة الغربية. الذي يخترق المجتمعات الفلسطينية بأكملها، ويغير من ديموغرافيتها واقتصادها تحت دواعٍ أمنية. إن جدار الضفة الغربية والتوسع السريع للمستوطنات يؤثران في حياة الملايين من الناس ويمتهن كرامتهم.

لكل واحد من ملايين الفلسطينيين قصته، لكل ماضيه وحاضره ومستقبل يحلم بأن يكون أكثر إشراقًا . طوال سنواتي هنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أدهشني صمود الفلسطينيين وحبهم للحياة. ولا عجب أن تتخذ غزة من طائر العنقاء رمزًا لأكبر بلدياتها، إذ تقول الأسطورة التي رواها لي رئيس البلدية أن هذا الطائر يبعث من الرماد مثل غزة تمامًا.

علمني الفلسطينيون الإبقاء على الأمل حيًا حتى في أحلك الأوقات. وبإلقاء نظرة للوراء على السنوات الخمسين الماضية واستعراض ما وصل إليه الفلسطينيون اليوم، أرى أن عقود الاحتلال الخمسة قوضت آمالهم وصمودهم.

وتزامن الأمل والصفاء الذي جلبه شهر رمضان المبارك، مع فسحة الأمل التي أتاحها تعليق الإضراب الجماعي عن الطعام والتوصل إلى اتفاق. على الرغم من أنه أمل مشوب بالحذر إلا أنني متعلق به.

وبعد خمسين عامًا من الاحتلال، فإن الأمل في تحقيق غد أفضل ليس كافيًا. يجب أن تترجم آمالنا إلى عمل ملموس. إن إحداث تغيير طويل الأمد في حياة الفلسطينيين لا يمكن أن يحدث إلا من خلال حل سياسي حقيقي ومستدام.

أغادر منصبي بعد شهرين وأدرك أنني لن أغادر كما أتيت، ويبقى سؤال يراودني: متى سيمتلك الساسة الإرادة لإيجاد حل دائم؟ وإلى أن يحدث ذلك، تظل اللجنة الدولية ملتزمة ببذل كل ما في وسعها، تماشيًا مع الدور المنوط بها، للتخفيف من بعض المعاناة الناجمة عن 50 عامًا من الاحتلال. وليس من قبيل الصدفة أن يعود وجودنا في الأراضي الفلسطينية إلى عام 1967. فقصتنا هي قصتكم.