تحاول الحكومة الإسرائيلية المُشكَّلة حديثاً تبهيت الانتصار الفلسطيني في معركة سيف القدس وما قبلها وبعدها، في محاولة لتحقيق إنجاز وهمي عجزت عنه حكومة نتنياهو السابقة، فهل هي جادة في هذا المسعى؟ وهل تنجح في تنفيذه إن قدر لها البقاء في ضوء التناقضات الكثيرة في مكوناتها؟ وما دور المقاومة في مراكمة إنجازات الفلسطينيين وتحشيدهم خلفها؟
هشاشة حكومة الاحتلال
لا يحتاج الأمر إلى عميق خبرة بالسلوك الإسرائيلي ومكونات الحكومة الحزبية للاستنتاج بأنها لن تذهب بعيداً في تشددها مع الفلسطينيين أكثر مما ذهبت إليه حكومة نتنياهو. ورغم التشدد المعروف لرئيسها نفتالي بينيت، فإنه يرتبط مع تحالف واسع الطيف لا يؤهله لتنفيذ كل ما يؤمن به على الأرض.
وقد ظهر هذا في عملية إخلاء مستوطني جبل صبيح، فقد اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى إخلاء مستوطني هذا الجبل القريب من بيتا بعد الاحتجاجات الشعبية الفلسطينية العارمة، ومخافة تصاعدها وامتدادها للأرض الفلسطينية، فيما يعد انتصاراً للفلسطينيين على حكومة طابعها العام متشدد.
كما ظهر فشل التصويت على قانون "المواطنة" الذي يمنع لم شمل العائلات الفلسطينية، وذلك بعد تعادل الأصوات المؤيدة والمعارضة له، واصطفاف الليكود المتشدد ضده نكاية في الحكومة التي يعارضها، بل إن الملفت للنظر أن عضو كنيست من حزب "يمينا" المتطرف صوت ضدّ القانون!
ويدل ذلك على هشاشة حكومة الاحتلال، وصعوبة احتفاظها بالمواقف المتشددة رغم تطرف رئيسها وبعض الأحزاب التي يتحالف معها، لأن هذه الحكومة تضم أطيافاً متعددة بما فيها القائمة العربية المشتركة.
ومع ذلك، تحاول هذه الحكومة القفز عن إنجازات المقاومة من خلال إبداء التشدد في ملفات ما بعد حرب سيف القدس، وذلك من خلال التراجع في موضوع المنحة القطرية، وتحويل توزيعها من المبعوث القطري إلى الأمم المتحدة، وربط إعادة الإعمار بحل قضية الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، في محاولة لتخفيف وطأة هزيمتها في المعركة، والمزاودة في التشدد على المعارضة الليكودية التي يقودها نتنياهو.
ولا يبدو أن حكومة بينيت ستذهب أبعد ممَّا ذهبت إليه حكومة نتنياهو رغم أنها تقول إن جيشها سيكون أكثر فاعلية في جولات القتال القادمة ومحاولة استعادة بعض من كرامة جيشها واستخباراتها، وسرعان ما ستتنازل عن مطلب ربط إعادة الإعمار بالتوصل إلى اتفاق على موضوع تبادل الأسرى في مواجهة تمسك حماس بقوة بورقة الجنود الإسرائيليين الأسرى.
وتدرك (إسرائيل) أنها باستمرارها في الاعتداء على الأقصى والمقدسيين والرد على البالونات الحارقة بالقصف في محاولة لخلق معادلة جديدة إنما تلعب بالنار، ليس فقط بتجاهل الردود المتوقعة للمقاومة بغزة، وإنما أيضاً بتصدي الفلسطينيين في القدس لها، وما يعنيه ذلك من تأجيج الأوضاع وانتقالها لبقية الأراضي الفلسطينية، وهو وضع قد لا ترغب فيه الحكومة الإسرائيلية، لأنه يهدد استمرارها وتماسكها الهش.
جبهات وأولويات
وفي الإطار الأوسع، فإن لـ (إسرائيل) محددات وأولويات في الجبهات وأهمها على الإطلاق أولوية مواجهة ما تسميه التهديد الأكبر، وهو التهديد الإيراني مع أذرعه في لبنان والعراق وسوريا.
ويعزز التخوف الإسرائيلي من إيران وأذرعها في المنطقة، تعرض الوجود الأمريكي في العراق وسوريا لأربع هجمات خلال اسبوع واحد، واستمرار التهديدات المتبادلة للسفن بين إيران و(إسرائيل).
صمود المقاومة يحبط التخطيط الإسرائيلي
ربما تتجاهل الحكومة الجديدة أن حاجة قطاع غزة إلى إعادة الإعمار لا تعني استسلام المقاومة ورضوخها لهذه الحاجة، فهي بدورها تمتلك أسلحة مادية ومعنوية مهمة في مواجهة الكيان. فالمواجهة الأخيرة لم تنجح في إيقاع خسائر كبيرة في عتاد المقاومة أو تحصيناتها وبنيتها التحتية كالأنفاق، وتصريحات السنوار حاضرة في هذا الإطار.
وتستطيع حماس أن تصمد طويلاً في معركة عض الأصابع مع (إسرائيل) في موضوع الأسرى، وستفشل على الأرجح -كما فشلت في السابق- محاولات ربط الإعمار بإنجاز عملية التبادل وتحقيق الهدوء لمستوطنات قطاع غزة.
فالكيان يعرف أن تحقيق الهدوء أو الهدنة لا يمكن أن يتم بدون تخفيف الحصار على غزة، كما أن تغيير آلية الدعم القطري لن يكون لها مردود سلبي على المقاومة التي أكدت أنها لا تحقق أي استفادة من الدعم أو المساعدات التي تقدم للقطاع.
ورغم المعاناة في قطاع غزة والحاجة إلى إعادة الإعمار، فإن المقاومة قادرة على خوض جولة جديدة مع الاحتلال، مستندة بذلك إلى دعم الشعب الفلسطيني لها وقدرة أهالي القطاع على التحمل على عكس الإسرائيليين.
ويقول الاحتلال إنه يستعد لجولة جديدة ربما تشمل تدخلاً برياً، إلا أن محدودية تحمله الخسائر البشرية واحتمال أسر المزيد من جنوده في الميدان، لا يؤهلانه لخوض حرب برية كما يروج، ما يعني زيادة أزمته وحاجته إلى حل قضية الأسرى.
كما تظل المعركة مفتوحة مع الاحتلال، مع دخول القدس والضفة على الخط والـ 48 بما يعزز الصمود الفلسطيني ودافعية القتال حتى مع الخسائر.
تقدم حماس وتراجع السلطة
وبلا شك، فإن (إسرائيل) تتخوف من تعاظم قوة حماس بعد سيف القدس، وخطورة ذلك عليها في ظل احتمالات انهيار السلطة الفلسطينية بعد اغتيال المعارض السياسي نزار بنات.
ويقول الخبير العسكري الإسرائيلي في مقالته التي أشرنا إليها في البداية: إن "تعزز قوة حماس في الشارع الفلسطيني في الضفة وفي شرقي القدس بعد سيف القدس، والاحتجاج الحاد ضد السلطة الفلسطينية من شأنهما أن يؤثرا أيضاً على الاستقرار الأمني لـ (إسرائيل). إذا انهارت السلطة الفلسطينية ستكون لذلك تداعيات، حيث إن قصة التوتر في شرقي القدس لا توجد بعد خلفنا".
وأكدت ذلك أيضاً كاسنيا سيفاتلوفا مديرة برنامج علاقات (إسرائيل) والشرق الأوسط في المعهد الإسرائيلي للسياسة الخارجية الإقليمية، بالقول: إن "حماس أصيبت بجروح بالغة في الحرب، لكنّها خرجت بصورة المنتصر، وخلال أيام القتال ظهر مقاتلوها واثقين من أنفسهم، وبعضهم أصبحوا نجوماً إعلاميين على شبكات عربية".
واستدركت الكاتبة في مقالها التحليلي الذي نشره موقع التلفزيون العبري الـ12، قائلة: إن "هذا الوضع يحتم على إسرائيل مع شركائها في العالم تبني أيديولوجية جديدة تجاه قطاع غزة والضفة الغربية، لمنع حماس من الاستمرار في ترسيخ نفسها في الساحة الفلسطينية، والعودة للحوار مع العناصر البراغماتية للسلطة الفلسطينية، لمنع انهيارها، رغم أنها ترتكب خطأ تلو الآخر، لكنها لا تزال الأكثر جدارة بمنحها إجراءات بناء الثقة".
وهكذا، لا يبدو أن آمال الكيان باستيعاب أو تحجيم المقاومة قابلة للتحقيق، فقد اكتسبت حماس بعد سيف القدس موقعاً جديداً في قيادة الشعب الفلسطيني، مقابل تراجع دور السلطة الفلسطينية، بما يؤهلها لقيادة تشكيل وطني فلسطيني يقود المقاومة ويوجهها ويعظم مكاسبها، شريطة أن تسعى لترميم قاعدتها في الضفة الغربية والتي أصيبت بالضرر الشديد نتيجة تعاون الاحتلال والسلطة على توجيه الضربات لها.
ويعزز ذلك أن البيئة الرسمية العربية أصبحت أكثر بعداً عن التطبيع، متمثلاً بالأساس برفض دولة عربية رئيسية كالسعودية له، فضلاً عن خسارة الكيان لصورته الديمقراطية في العالم وبروز دوره كاحتلال تتعارض ممارساته مع القوانين الدولية والإنسانية.