فلسطين أون لاين

شقيقة "أسد القدس والأقصى" الشهيد مصباح

المقدسية صباح أبو صبيح: "في حضرة الذكرى ألملم شتات روحي"

...
صباح ابو صبيح بالقرب من الكأس أمام المصلى القبلي
إعداد/ د. زهرة خدرج:

بلغ مني الشوق آنذاك كل مبلغ، ولم تستطع ذاكرتي أن تأخذ استراحة بسيطة فتكفَّ عن استعادة الأحداث وإعادة ترتيبها مرة تلو الأخرى، من لحظة قدومه إلى دنيانا وصولًا إلى قبره الفارغ الذي يتوق لضم رفات صاحبه، الذكريات ترافقني طوال الوقت، في كل تفاصيل أيامي منذ أن اختار الرحيل وآثر أن يترك محبيه يتلظون في نار الشوق، رأيته في المنام في تلك الليلة مقبلًا من بعيد، يشع وجهه بنور ساطع حال بيني وبين التحديق فيه، كان ضخمًا ضخمًا جدًّا كأنه عملاق، رأسه يكاد يلامس السماء، رفعت رأسي أقصى ما أستطيع يملؤني العجب؛ أتوق لرؤية وجهه، اقتربت من ساقيه وعانقتهما قائلة: "كم أشتاق لك يا حبيبي!"، فقال بصوته الحنون الذي يشع دفئًا: "لا تقلقي عليَّ، أنا سعيد هناك، سعيد جدًّا"، ثم استيقظت فجأة.

وكأن هذا الحلم قد شرَّع باب الذكرى الموارب وفتحه على مصراعيه، أخذت التفاصيل تنساب إلى وعيي دون إرادة مني، وتعيد سرد حكاية أحفظها عن ظهر قلب.

أقبل إلى دنيانا في وقت أظنه لا يناسب أمثاله من أصحاب العقيدة الصادقة والمبادئ الراسخة، لأب ينتظر بحرقة قدوم ابن ذكر يسند ظهره ويعينه على نوائب الدهر، ويؤنس فتياته الخمس اللائي خشي عليهن البقاء دون أخ يصلهن ويحرص على سعادتهن، وبعد انتظار طويل تعلق فيه والدي بالبشرى التي جاءت نبي الله إبراهيم وهو شيخ وامرأته عاقر، جاءته البشارة يرافقها الفرح، دخل السرور بيتنا من أوسع باب وصبغ كل ما حولنا بوجهه الصبوح: زغاريد، وموالد، وولائم، وموائد للفقراء، حتى عابرو الطريق شاركونا في فرحة قدومه، وتلألأت البسمات على قسمات الوجوه، لا أقول في سلوان وحدها، بل في كل ما جاورها، جبل المكبر، والثوري، وراس العمود، والقدس القديمة، والطور... إلخ.

أسماه والدي مصباحًا حين هلَّت أنواره علينا وأشرق الحبور في حياتنا بلا ميعاد، في ذلك الوقت كنت متزوجة أسكن راس العمود، وأنشغل بشؤون أسرتي الخاصة ما بين حمل وولادة ومسؤوليات لا تنتهي، ولكني أخذتُ أذهب إلى بيت أهلي يوميًّا لأكون بقربه، إنه أخي المنتظر، رغم فارق السن بيننا.

وكم غدا مصباح حنونًا متواضعًا ذكيًّا بارًّا بوالديه، محبًّا للجميع، ويحبه الجميع، فلله درك يا أخي، لا تليق بك إلا الجنان!

ما إن بدأ يدرج أولى خطواته حتى شرع والدي يحمله ويمضي به إلى المسجد الأقصى، كان يريد أن يجعل منه رجلًا يحمل قضية الوطن المسلوب وهمومه على صغره، يتركه يلهو على مصاطبه وفي ساحاته، يركض، يطارد القطط، ينبطح أرضًا في محاولات آسرة مسلية يقلد عبرها حركات الصلاة ويردد فيها: "الله أكبر" بصوت مزلزل، وكأنه يمرِّن نفسه عليه استعدادًا للقادم من الأيام.

وغدت "الله أكبر" السر الذي أدرك مصباح منذ بداياته أنه المفتاح الذي يفتح كل ما يستعصي عليه.

في حارة العين في سلوان يتربع بيت أسرتي فوق مغفر لشرطة الاحتلال، ودون سبب منطقي، إن كان لدى الاحتلال ومعاداته لأصحاب الحق أي منطق، ناصبوه العداء منذ طفولته؛ فكان كلما مرَّ من أمامهم صاعدًا للبيت أو هابطًا للشارع أوقفوه وفتشوه وضايقوه وساءلوه، وفي طفولته اعتقلوه؛ حتى ترسَّخ البغض الشديد لهم في أعماق نفسه، وبات هذا البغض يغالبه ويصارع مشاعره وأفكاره.

وعندما اشتد ساعده نذر نفسه للدفاع عن زوَّار الأقصى والمرابطات فيه من اعتداءات جيش الاحتلال على البوابات التي أصبحت محطات عذاب وإهانة لا يحاولون مواراتها، ووقف بالمرصاد لكل صاحب حق يراه يُهان أمامه، وكم ضرب وأهين بسبب ذلك، ولكنه لم يستسلم أو يتراجع؛ فالحياة في منظوره مبدأ، والحياد أكبر خيانة لمبادئه التي يؤمن بها.

منعوه من زيارة الأقصى مرة تلو الأخرى، وحظروا عليه القدس القديمة، وحرَّموا عليه مجرد الاقتراب من أبوابها، حرموه بؤبؤ عينه، فكيف له أن يهنأ بعيش بعد ذلك؟! أخذ يُمضي أوقاته في جبل الزيتون، وفي منطقة فندق الأقواس السبعة تحديدًا التي يستطيع منها رؤية المسجد الأقصى، كان يجلس وحيدًا على سجادة صلاته مصليًا مناجيًا ربه، دون أن يملَّ النظر غربًا لعله يشبع ظمأ روحه برؤية المسجد الأقصى والبلدة القديمة.

أغاظهم ذلك، فأخذوا يفتشون في السجلات القديمة لعلهم يستطيعون التضييق عليه أكثر فأكثر، ولم يعدموا الوسيلة، أرسلوا له إنذارًا يأمره بتسليم نفسه للاعتقال في سجن الرملة مدة أربعة أشهر على تهمة قديمة ألصقوها به قبل أربع سنوات، تهمة الاعتداء بالضرب على شرطي احتلالي في حي باب حطة، رغم أن الأخير كان هو المعتدي ومصباح كان هو المدافع عن نفسه، ولكن، إذا كان القاضي غريمك، فمن سيسمع لشكواك وينصفك؟!

وزيادة في التنكيل به، قبل حلول موعد الاعتقال الذي جاءت به مذكرة شرطة الاحتلال، اعتقلوه من أمام البيت دون سبب، ووضعوه في زنزانة مملوءة بالبراغيث أبقوه فيها 24 ساعة، عاد بعدها إلى البيت يغطي جسده تقرحات وتهيج على شكل بقع حمراء كبيرة سببت له حكة وحرقانًا في الجلد، اضطرته إلى مراجعة طبيب مختص بالأمراض الجلدية، وتناول دواء لم يكن قد انتهى منه عندما حانت النهاية.

اجتمعنا في بيت أهلي مساء يوم الجمعة للاحتفال بفرح ابنة أختي، فطلب منا جميعًا أن نحضر في اليوم التالي أيضًا؛ أراد أن يودعنا لأنه سيمضي لتسليم نفسه للاعتقال، في ذلك اليوم اجتمع في بيت أهلي ما يزيد على سبعين نفرًا، أحضر لنا من الطعام ما لذ وطاب، تحدثنا، ضحكنا، لاعب الصغار ومازح الكبار وتصور معنا، ذكَّرنا كثيرًا بأهمية الدفاع عن مسرى نبينا الكريم، وأجر الجهاد والرباط والشهادة، صلى فينا صلاة شعرت بها صلاة مودع.

رجته أختي الصغرى يومها ألا يُضرب عن الطعام إن مددوا اعتقاله، لأنها تخشى على حياته، وكانت أخبار الإضراب الذي يخوضه الشيخ خضر عدنان تملأ الآفاق، ولكنه ردَّ بإصرار قاطعًا كل جدل بقوله: "وهل الإضراب عن الطعام يودي بحياة صاحبه؟! حتى إن كان كذلك فإنها شهادة أتمناها".

وقبل أن تمضي كلٌّ منا إلى بيتها عانقني بحرارة قائلًا: "أختي أم خالد، أرجوك، ادعي لي بالتوفيق، أنا قاصد باب الله".

في صباح اليوم التالي سارعت إلى بيت أهلي لأطمئن على مصباح ووالدي، وما إن وصلت حتى بلغتنا أنباء عملية جهادية في الشيخ جراح، وأنباء عن استشهاد المنفذ.

ولأن قلب الأم لا يشبهه شيء، ما إن سمعت أمي الأخبار حتى صرخت نائحة: "ابني، ابني مصباح"، وشرعت تبكي بلا توقف.

ولكن أبي قال بحدة: "صلي على النبي يا امرأة، ابنك الآن سلم نفسه للاعتقال، ما علاقة ما يحدث في الشيخ جراح بابنك؟!".

ولكن مخاوف أمي لم تهدأ، بل بقيت تتلظى على نار التوجس والانتظار، لعل نبأ يبلغ مسامعها يطمئنها على أخي مصباح.

بعد ساعة تقريبًا ذكرت الأخبار أن المنفذ من سلوان، فازداد بكاؤها هستيرية، وأصبحت شبه واثقة أنه مصباح، مصباح لا سواه؛ فهي تعرفه تمام المعرفة في قرارة نفسها رغم أنها تنكر ذلك بلسانها.

وبعد ساعتين كانت الزغاريد وصور البطل الشهيد مصباح تملأ الحي، رفضنا تلقي العزاء، واستبدلنا به التبريكات، فمصباح شهيد، لقد نال ما تمنى، صدق الله فصدقه.

دموعنا تبتسم يا مصباح وتفخر ببطولتك، وفي القلوب حرقة لا يعلمها إلا الله، لقد انتزعت قطعًا من قلوبنا ورحلت بها، فكيف لنا أن نشعر بالراحة من بعدك يا أخي الحبيب؟!

كانت أمي تعلم طباع ابنها جيدًا، "دمه حامي" هي من تعترف دومًا بذلك، لذا حاولت التحايل عليه، وزوجته باكرًا لعله ينشغل بزوجته وأبنائه وتهدأ روحه الثائرة، ولكن ملاحقة الاحتلال له وتضييقه عليه لم يتركا له مناصًا يلجأ إليه، اعتداءاتهم المتكررة عليه كسرت حاجز الخوف في قلبه، ودفعته إلى فِعل ما فَعل.

عندما شاهدت فيديو العملية تيقنت تمامًا أنه مصباح، هاجم قوات اليسَّام (العالية التدريب) في البداية بسيارته، وهم يتراكضون ويولون الفرار، رغم أنهم مدججون بأحدث الأسلحة، تظاهر بالموت داخل سيارته، حتى إذا اجتمعوا مرة أخرى للاقتراب منه، صوَّب سلاحه نحوهم وأطلق النار بكثافة، حتى تمكَّن أحدهم بعد ما يزيد على 4 دقائق من بدء إطلاقه النار من إمطاره بثلاثين رصاصة، ليستشهد مصباح مقبلًا غير مدبر.

انطلقت مسيرات وتظاهرات ومواجهات عقب إعلان العملية، هتف الشباب: "أم الشهيد نيالك.. يا ريت أمي بدالك"؛ فالشهيد ليس إنسانًا عاديًّا، إنه أسد الأقصى كما كان أهل القدس يطلقون عليه، أرى بعيني هذه الأيام المستوطنين يقتحمون الأقصى ويدنسونه، فيحترق قلبي وتنساب دموعي وأردد: "أين أنت يا مصباح لترى ما يفعلون؟!".

ومنذ ذلك اليوم لم نعد نَرَ مصباح، احتجز الاحتلال جثمانه في الثلاجات (مقابر الأرقام)، تحت درجات حرارة شديدة الانخفاض، دفعت بأمي لأن تكره الثلاجات، فلا تعني الثلاجات لها شيئًا إلا جثة أخي مصباح، تتساءل أمي دومًا: "هل تغيرت ملامح مصباح يا تُرى مع طول مدة التجميد؟! هل ابني الآن حقًّا عبارة عن لوح من الثلج؟!".

وما تزال بيننا وبينهم صولات وجولات في المحاكم؛ لعلنا نكسب إحداها فنودعه القبر الذي اشتراه في مقبرة باب الرحمة وجرَّبه وهو يرتدي الكفن، في إحدى مرافعات المحكمة تجادلنا معهم بعد أن رفضوا تسليم جثمانه لنا، فصرخت فيهم قائلة: "أخي في الجنة، لا يهمنا احتجازكم جثته"، ورددت مقولة أسماء بنت أبي بكر بصوت مرتفع: "وماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟!".

وصدر قرار بهدم الشقة التي يسكنها، سارع أصدقاؤه ومن عرفوه إلى إفراغ البيت من كل المحتويات، حتى المثبتة منها في الجدران، لم يتركوا للهدم والتدمير سوى جدران فارغة هدمها الاحتلال بغيظ لا يخفى على أحد، وأغلقوا باب الشقة بالشمع الأحمر، يحضر الجيش أحيانًا، يفتحون الباب المغلق ويتفقدون المكان بهلع، وكأن مصباح ما زال يسكنه، ولكنه طيفه يطاردهم ولا يدعهم يشعرون بالسكينة.

ما حدا بالمحقق لأن يقول لابن أخي مصباح في التحقيق: "والدك مسجون عندنا الآن"!

وهو ما خلط أوراقنا وأعادنا إلى خانة الضياع؛ فنحن لا نعرف تمامًا ما حدث لمصباح: هل استشهد حقًّا؟! أين جثمانه إذن؟! أيكون أسيرًا في معتقلاتهم؟! لا إجابة لدينا عن أي من هذه الأسئلة، خاصة أنهم لم يسلِّموا لنا شهادة وفاة، ولم يسلموا لزوجته مخصصات تأمين وطني أو تأمين صحي.

كانت جدتي تطعم مصباح في طفولته المبكرة زيت زيتون وتقول له: "كُلْ زيت وانطح الحيط"، حفظ مصباح كلماتها فنطح الاحتلال الذي يؤذيه ويؤذي شعبه وأبناء دينه ويقف أمامه كجدار يمنعه من أن يعيش حياته كما ينبغي لأي إنسان حر أن يفعل.

أبي الآن مكسور الظهر، محزون النفس يدعو دومًا أن يحفظ الله حياته حتى يواري مصباح الثرى بيديه.

غادرنا مصباح وبقي ذكره، وبقيت وصاياه يتناقلها الشباب ويعملون بها: الأقصى أمانة في أعناقكم فلا تتركوه وحيدًا.

فمن سيكون مصباح التالي يا تُرى؟!