المشاهد التي بثتها كاميرات الإعلام لما يجري في شوارع رام الله في الضفة الغربية، تعيد للأذهان مشاهد رسخت في الذاكرة العربية وسجلت في أحداث التاريخ كأشد حالات القمع التي مورست ضد الشعوب العربية من طغاة الحكام العرب، بل وأصبحت تلك المشاهد علامة فارقة في معادلة الحرية والقمع التي ما زالت الشعوب العربية تكابد تداعياتها حتى اللحظة، فلم تفلح الشعوب العربية بعد في إرساء دعائم الحرية كما أرادت بفعل استماتة الطرف الآخر من المعادلة على التشبث في الحكم بدعم إسناد من قوى الرجعية العربية والقوى الإمبريالية التي لا تريد خيرًا لهذه الشعوب.
الوضع الفلسطيني من وجهة نظري يشبه إلى حد كبير أواخر عهد بوتفليقة في الجزائر، إذ استشرى الفساد في كل مناحي الجهاز الحكومي، وتشكلت جماعات مصالح ربطت مصيرها ببقاء الرئيس بوتفليقة في منصة لأطول مدة ممكنة، رغم أنه كان عاجزًا تمامًا عن ممارسة حياته الطبيعية فضلًا عن مهام الرئاسة التي تحتاج بالضرورة إلى سلامة الحواس وقوة التركيز وقدرة الجسد، للسيطرة على مقاليد الحكم في الدولة، ولكن كان مجرد بقائه في منصب الرئاسة حتى لو في صورة لجسد متهالك غير واعٍ يحقق الهدف المنشود لتلك الفئة التي وصفها الرئيس تبون بعد ذلك بالعصابة، تلك العصابة التي ذهبت إلى أبعد مدى في امتهان كرامة الشعب الجزائري ونهبت مقدراته، حتى أوصله إلى مستوى غير مسبوق من الفقر رغم الغنى الواضح للدولة الجزائرية، وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحد تحرك الشعب الجزائري فأسقط الهيكل الرئاسي المتداعي وسقطت معه العصابة التي كانت تحكم باسمه.
الشعب الفلسطيني يعاني اليوم "الظاهرة البوتفليقية" إن جاز التعبير، وهي وجود رئيس بلغ من الكبر عتيًّا، أزعم أنه فقد قدراته للسيطرة على مقاليد الحكم ووجوده في السلطة أصبح غطاءً لعصابة تحكم من خلفه وتتحكم في مصير ومقدرات الشعب الفلسطيني، وترفض إصلاح النظام السياسي الفلسطيني وتُفشل كل محاولة للخروج من الأزمة التي طوقت الفلسطينيين منذ خمسة عشر عامًا، وما زالت تلك العصابة تحاول مد هذه الفترة لأطول مدة ممكنة حفاظًا على مصالحها التي لا شك ستزول بزوال الهيكل الرئاسي المتداعي الذي تحكم باسمه، الفرق بين ممارسات عصابة بوتفليقة وعصابة رام الله أن الأولى كانت تسعى لإجراء عمليات انتخابات صورية لتثبيت شرعية النظام في ذلك الوقت ولو صوريًّا، أما مصيبة الشعب الفلسطيني في العصابة التي تحكمه أنها ترفض فكرة الذهاب للانتخابات أصلًا، ولذلك أفشلوا العملية الانتخابية في آخر مراحلها جاعلين من درة تاج القضية الوطنية الفلسطينية (القدس) سببًا لذلك، ومن نكد هذه الحياة أن يجعل هؤلاء من القدس على طهارتها غطاء للموبقات الوطنية التي يمارسونها بالتعاون مع الاحتلال.
وكما حاولت عصابة بوتفليقية تثبيت نفسها في الحكم فاغتالت المعارضين وقمعت المحجتين ومنعت الإصلاح، تسير عصابة رام الله على ذات الطريق، فمارست الفساد المنظم الذي كان آخره فضيحة لقاحات كورونا وعطلت الحياة السياسية ولاحقت المقاومين ومارست التنسيق الأمني بدعوى الحفاظ على (النظام) ثم كانت آخر جرائمها اغتيال نزار بنات بطريقة وحشية ثم لم تتوانَ عن قمع المحتجين على اغتيال نزار بنفس أساليب الطغاة العرب.
من غرائب الأمور أن الطغمة الحاكمة في رام الله جعلت من التظاهر ضد الممارسات الهمجية للأجهزة الأمنية والمطالبة بإصلاح النظام السياسي الفلسطيني والمطالبة بالانتخابات، محاولةَ هدم للنظام السياسي الفلسطيني ومؤامرةً على الكيان السياسي الفلسطيني، وحاولت بعض أبواقها الإعلامية التسويق لهذه الفكرة الساذجة التي لا تقنع أطفال فلسطين فضلًا عن نخبها ومثقفيها، لم تدرك بعد العصابة الحاكمة في رام الله أن إرادة الشعوب غالبة، ولم تأتِ عمليات القمع والقهر إلا بمزيد من الإصرار على محاربة الفساد وطلب الحرية، ولذلك انطلقت المظاهرات الداعية للحرية ولإصلاح النظام السياسي الفلسطيني في أرجاء الضفة الغربية غير مبالية بعمليات القمع الشديد الذي تعرضت له، بل ولم تفلح محاولات استرضاء العائلة ببعض من المكالمات من أبو مازن ورئيس وزرائه اشتية، تلك المكالمات التي زادت الطين بلة، إذ أعلنت العائلة أنها لن تقبل بهذه التعزية التي جاءت بعد تجاهل لمدة خمسة أيام على وفاة الشهيد، وكان لسان حال العائلة يقول: الآن تتصل يا أبا مازن بعد أن هبت الجماهير للمطالبة بالقصاص، ولو لم تكُن تلك الجماهير قد انتصرت لروح نزار أكان يخطر على بالك أنت ورئيس وزرائك أن تجرى اتصالك المتأخر هذا؟ ربما فات أبو مازن أن من سبقه من الطغاة كانوا دائمًا يحاولون تدارك الأمور بعد فوات الأوان، وهذا ما فعله الرئيس التونسي زين العابدين قبيل هربه عندما خاطب الجماهير الثائرة بعد فوات الأوان بلهجة متوسلة (الآن فهمتكم).
انتهى عهد بوتفليقة وانتصرت إرادة الشعب الجزائري، ولاقت عصابة بوتفليقة مصيرها المحتوم كما سيلقى كل الطغاة ذات المصير، هذا المصير الذي ستلاقيه أيضًا عصابة رام الله ولا أظنه سيكون بعيدًا.