كمنْ وضعَ أحلامه في قبرٍ، وأطبقَ عليها حبيسةً خلف الظلام، وطمرها برمال اليأس، وانقطع آخر خيط أمل تعلق به هو وآلاف الموظفين من "تفريغات 2005"، استقبل أدهم خلف أحد موظفي التفريغات تصريحات رئيس السلطة محمود عباس التي "اشترط فيها حل الملف بعودة السلطة إلى غزة" في أثناء اجتماع المجلس الثوري الأخير لفتح.
بذلك يطلقُ عباس رصاصة الانتقام على آمال الموظفين الذين تعلقت أحلامهم على حبال وعود نقلتها عنه قيادات من فتح في المرحلة التي سبقت الدعاية الانتخابية للانتخابات التشريعية، التي ألغيت بقرارٍ من عباس نفسه، وهو ما أدركه خلف وبقية الموظفين أن آمالهم كانت ألعوبة انتخابية "احنا كنا عارفين أن وعودهم كانت دعاية بس".. كلمات خرجت من حنجرته المقهورة، شيع معها آخر أمل تعلق به الموظفون وانتظروه بفارغِ الصبر.
اعتصم موظفو التفريغات البالغ عددهم 8 آلاف موظف، أكثر من ستين يومًا في ساحةِ السرايا، في الأشهر التي سبقت قرار إلغاء الانتخابات التشريعية، ونصبوا خيمة كانت منبرًا لإعلاء صوتهم، رافعين شعار "الحقوق قبل الصندوق" وزارتهم قيادات باللجنة المركزية في فتح بمستوى أحمد حلس، وروحي فتوح، حتى فُض الاعتصام بناءً على وعود تلقوها من تلك القيادات أن عباس نفسه أوعز للجهات المختصة بحل ملفهم، كأنهم باتوا ألعوبةً يستخدمهم متى شاء، ثم سرعان ما يتراجع.
لم يدرك عباس أن أدهم وعائلته كحال بقية الموظفين بنوا آمالهم على وعوده وكانوا ينتظرون تحقيقها بفارغ الصبر "كل شهر كنت أستدين، كان عندي أمل أنه راح آخذ مستحقاتي بيوم من الأيام حتى أسد الديون، فلدي ستة أبناء الآن أصبحوا شبابًا" لكن بعد اشتراط حل الملف بالعودة لغزة، يرى أدهم أن أبواب السجن على "ذمة مالية" ستكون أقرب إليه؛ لأن عليه سداد مبلغ ستة آلاف دولار كلها للأكل والشرب.
دفعة "مخسوفة"
منذ خمسة عشر عامًا نظم أدهم حياته على الدفعة المالية الشهرية البالغة ألفا وخمسمائة شيكل، لكنها "انخسفت" منذ قرابة عامٍ ونصف العام إلى نصفها (700 شيكل)، و"لم تكفِ لأدنى مقومات الحياة" فقد نجح ابنه بالتوجيهي، ولم يستطع تحقيق حلمه بالدراسة الجامعية.
"من بداية أزمتنا عانينا الأمرَّينْ، ثم شكلت لجنة خماسية وسداسية من اللجنة المركزية، وجاؤوا لغزة قبل الانتخابات، وقطعوا وعودًا بأن هناك قرارًا مكتوبًا من عباس بإنهاء الملف، وتم إلغاء الاعتصام، وكنا نترقب اجتماع المجلس الثوري الأخير لإنهاء الملف، لكن خطاب عباس بالمجلس بأن حل الملف سيتم عند عودة السلطة لغزة أعادنا لنقطة الصفر" يعتصر الألم بصوته وهو يختصر قصتهم.
يعلي نبرته بعفوية مارًا على كل المحطات والاعتصامات والقرارات، وبات أمام حقيقة أثبتتها الأيام له "بطلنا نثق بأي قيادي، ولا في رئيس السلطة اللي بطلع قرار وبلغيه بعد شهر، هذا يؤكد أن القرار كان دعاية".
في الفترة التي كانت تصرف فيها السلطة 700 شيكل فقط لعناصر "تفريغات 2005" طيلة سبعة عشر شهرًا، كانت أبواب السجن تفتح للموظف إبراهيم زينو على "ذمم مالية"، فلم يستطع تغطية التزاماته التي بقيت متراكمة حتى اليوم.
خبر صاعق
"أعترفُ أنني كنت أقضي واحدًا وعشرين يومًا في كل مرة أسجن فيها على ذمة مالية في زنزانة فردية بطلبٍ وإلحاح مني، كنت أتوارى عن الوجوه حتى داخل السجن، بعيدًا عن أعين المعتقلين والآخرين، فقد كان الأثرُ النفسي كبيرًا".. تنهد الألم الذي يعتملُ صدره وهو يرجعُ بذاكرته ثلاث سنوات للوراء.
أما حاله اليوم فلم تقلّ صعوبة، كغريقٍ في مستنقعِ فقرٍ لا يجد طوقَ إنقاذٍ، يعددُ آلامه بلهجة عامية: "بنتي مخلصة توجيهي قعدتها، ابني قعدته من التوجيهي، مش قادر أوفر احتياجاتهم".
يسكب نيرانَ غضبه على قرار عدم حل الملف كصاعقةٍ نزلت على قلبه: "للأسف كنا نتأمل بتلك الوعود، واليوم اتضح لنا أنها حبر على ورق ومخيبة للآمال ووعود كاذبة وأداة من أدوات الدعاية".
موظفو "التفريغات" الذين يسمون عنوةً "موظفين" يتم استثناؤهم –كما يفيد هؤلاء– من المساعدات الإغاثية، نتيجة قيدهم بالوظيفة العمومية، التي لا تعترفُ بهم وترفضُ منحنهم حقوقهم، هذا التمييز فقط تمارسهُ السلطة على أبناء غزة من عناصر التفريغات، في المقابل تعطي كامل الحقوق لزملائهم بالضفة الغربية.
ضحايا الانقسام
واستغرب المتحدث باسم "تفريغات 2005" رامي أبو كرش ما ورد في اجتماع المجلس الثوري الذي نُقلت فيه تصريحات عباس بأنه "سيتم توظيف عناصر التفريغات بغزة حينما تعود السلطة لغزة"، على الرغم من أن الموظفين استوفوا كل شروط التعيين وليسوا بحاجة لاستيعاب.
يقول أبو كرش لصحيفة "فلسطين": "وقعنا ضحايا الانقسام ولسنا جزءًا من المعادلة السياسية، ولسنا جزءًا من الخصومة، ونحن لا نسيطر على القطاع كي يتم حل ملفنا عندما تحكم السلطة غزة، ونحن جزءٌ من المنظومة الاجتماعية والوظيفية، ولا يجوز أن نزج بالخصومة السياسية، وخمسة عشر عامًا كافية لأن يتم إنهاء الملف وعدم التخفي خلف الجريمة القانونية بحقنا".
ويوضح أن هناك لجنة شكلها عباس، وكان هناك قرار بإنهاء الملف، ونقل على الوكالة الرسمية "وفا" التابعة للسلطة وجود إيعاز من عباس بإنهاء ملف التفريغات، لكن ما جاء في اجتماع الثوري يؤكد أن كل هذه الوعود مجرد دعاية انتخابية، و"كأننا سلعة يتاجَر بها هناك وهناك، على الرغم من صعوبة أوضاعنا تحت الحصار، وهو ما يتحمل مسؤوليته عباس نفسه".