فلسطين أون لاين

وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ

...
د.عبدالله العمادي
د. عبد الله العمادي

ليس هناك أدنى شك في أن ما عند الله أو ما أعده سبحانه في الآخرة لعباده الصالحين الطائعين، خيرٌ وأبقى.. خير من الدنيا وما فيها، فما هذه الدنيا إلا متاع زائل لا محالة، متاع منزوع عنه حقيقة الخلود، تلك الحقيقة التي ستكون حاضرة في كل أمور الآخرة، من جنة ونار، سعادة وشقاء.

وتأتي الآية الكريمة في سورة الشورى: "فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"(الشورى:36)، لتقرر أن ما عند الله خيرٌ وأبقى، لكن لمن ستكون تلك الخيرية أو خوالد الأمور والأشياء في الآخرة؟ إنها مقررة للذين يتصفون بصفات معينة، ويقومون بأفعال محددة، ويمتازون عن غيرهم بطبائع وسلوكيات تجعلهم مؤهلين، لنيل خيرية الآخرة.

فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى، السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا: لمن هذه الخيرية يا رب؟ إنها بكل وضوح كما تقول الآية " لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (الشورى:36) بالإضافة إلى صفات أخرى.

فتلك الخيرية إذن للذين وقر الإيمان في قلوبهم أولاً واستقر وتمكن منها سلوكياتهم وأفعالهم وأقوالهم تمضي وفق ما استقر من إيمان عميق بالله تعالى في القلوب، هذا ما وجده الصحابة الكرام بعد أن انتقلوا من عالم الكفر والفوضى إلى عالم الإيمان والنظام والاستقرار.

ومن يتوكل على الله فهو حسبه ثم متى استقر الإيمان في القلب، اطمأنت النفس قبل الجسد، وصار من ثم مفهوم التوكل على الله في كل الأمور واضحاً لا ريب فيه، وهو الصفة الثانية بعد الإيمان، للذين أعد الله لهم ما بالآخرة من خير لا مثل له في الدنيا "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق:3).

إن تخلى الناس عنك فتوكل على الله تعالى، وإن عاداك الخلق فتوكل على الله تعالى، وإن تآمر عليك متآمرون فتوكل على الله تعالى، وإن أردت النصر من الله تعالى فتوكل عليه.. ليكن توكلك على الله تعالى بصفة خاصة في عظائم الأمور، تنَل صغائرها دون أن تشعر، ولتكن همتك عالية وتوكلك على الله تعالى عظيمًا، ولا تكن مغبوناً في توكلك.

لا شك أن القلب المتمكن منه الإيمان الصحيح، ليس به تلك الفراغات التي يمكن أن يقذف فيها الشيطان ما يعكر صفوه ونقاءه، ذلك أن قلب المؤمن الصادق، المتوكل على الله في كل أموره وشؤونه، لا يتوافق أو يتآلف مع الآثام والمنكرات، صغيرها وكبيرها حتى وإن ضعف بحكم فطرته البشرية، فإنما يظهر الضعف في الصغائر، التي تمحوها بإذن الله الحسنات، التي يُذهبن السيئات.

ثم تواصل الآية الكريمة ذكر الصفات الواجبة لنيل خيرية الآخرة، لنجد صفة ضبط النفس والتحكم فيها عند أشد أنواع الانفعالات الفطرية سهلة الإثارة، وهو الغضب "وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"(الشورى:37).

إن الغضب ينقص من الدين، ويؤثر في المظهر العام للشخص، إضافة إلى تأثيراته السلبية على الصحة تأثيرًا لا خلاف عليه، كما يقول بذلك السادة الأطباء وخبراء النفوس الإنسانية.

وقوله تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ" (الشورى:38)، فيها صفة أخرى عظيمة من صفات أولئك المستحقين لخيرية الآخرة، والخلود فيها، إنها الاستجابة لأوامر الله ونواهيه، وطاعته والسير على صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.

وقوله تعالى: "أَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ" (الشورى:38) تأتي بعد استقرار الإيمان في القلوب والاستجابة لأوامر الله تعالى ونواهيه، وضبط النفس وقت الشدائد، صفة أخرى راقية من صفات المؤمنين الصادقين، وهي المشورة أو الشورى أي لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم.

تلكم كانت بعض صفات من وعدهم الله ما عنده من خير أعظم وأجلّ وأزكى وأرقى وأبقى، خيرية دائمة خالدة، جزاء وفاقاً لمن آمن بالله تعالى صدقاً وعدلًا، واستجاب لله تعالى وأطاعه سراً وعلانية، وأقام الصلاة وزكى نفسه بالإنفاق، وسار مع الجماعة، يشاورهم لا يفرق أمرهم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.