هذا الاسم القديم تجده مزيجًا من العربية القديمة وجاراتها المتصاهرة معها، وهي تحمل مدلول البيت والسكن والتوطن والأهل والعائلة، ومن الواضح أن هذا الاسم القديم يدل على أنها عامرة قديمًا كما نرى من كثرة آثارها وخرائبها وكهوفها وأحواضها الصخرية.
وكانت تُتخذ مسكنًا لطائفة من الناس العابرين من التجار والمسافرين والحجاج في الطريق الواصلة بين القدس ونابلس، حيث تقع قرية بيتا أو بلدة بيتا في تلك الهضبة المرتفعة البعيدة عن نابلس إلى الجنوب الشرقي منها بنحو 13 كلم، تترامى بيوتها الحجرية بين المرتفعات وسفوح الوديان والسهول الضيقة.
وقد اتخذها القدماء مسكنًا عاليًا لطيب هوائها ووفرة عيونها وغزارة آبارها وخصوبة أرضها التي تكتنفها أشجار الزيتون في تلك التلال الممتدة حولها، فتقوم بها مَعاصر الزيتون وتجارة الزيت الفاخر، فوق شهرتها بالمحاجر التي تُبنَى بها بيوت الجبال الفلسطينية، وتُجعَل منها "الكفايف"، وهي تلك السلاسل الحجرية في بطون ضفاف الأودية التي تمنع انجراف التربة، والتي تضم البساتين ذات الأشجار المثمرة والمحاصيل الموسمية.
لا يحدثنا التاريخ بتفاصيل وافية عنها، فقد كانت قرية كبيرة تحولت إلى بلدة، وحولها قرى كثيرة وعمران، ومعظم التاريخ ينجذب إلى المدن الكبيرة المهمة المتوزعة على جهاتها الأربع، ويبدو أنها حظيت ببعض العزلة الاجتماعية والسياسية قليلًا في تاريخها الطويل، ويمكن الحديث عن تاريخها عبر اقتران جغرافيتها بجغرافية المنطقة المحيطة، ولا سيما نابلس والقدس.
إلا أن فيها ميزة مع تلك القرى من حولها جعلتها أكثر عراقة وانتماءً وامتدادًا، إذ إنها حافظت على تركيبتها الاجتماعية في حقبة الحروب الصليبية، ولم تتعرض لتهجير ممنهج لأهلها كما حدث مع نابلس وبعض البلدات الكبيرة حولها، وظل معظم أهلها وحمائلها ينتمون إلى أصولهم العربية القديمة لا سيما في حقبة الفتوح الإسلامية الأولى، التي تطعمت بوفادات صغيرة ما لبثت أن تكاثرت وتعاظمت.
ولا تزال بيتا في موقعها المميز، درة قرى المشاريق المنسوبة إليها، التي يقولون فيها مشاريق البيتاوي، وهي ثلاثون قرية على طول الناحية الشرقية للطريق المقدسة التي تصِل القدس بنابلس، منها: بلاطة وعسكر وعزموط وبيت دجن وعورتا وقبلان ودير الحطب وسالم وعقربا وتلفيت وقريوت ودومة وجالود... وتنافسها قرى أخرى على موضع الصدارة.
تحتل بيتا مع قرى المشاريق موقعًا فاصلًا بين شمال الضفة الغربية وجنوبها، وتشكل نقطة ارتكاز استراتيجية مُشْرِفة على تلال واسعة يمكنها أن تتطور إلى حاجز استراتيجي، ومن شأن إقامة بؤرة استيطانية في بيتا أن تتطور بارتباطها بمستوطنة كفار تفوح في غربي نابلس قرب حاجز زعترة العسكري سيئ السمعة، لذلك كانت ردة فعل أهالي بيتا عالية جدًا عندما أقامت سلطات الاحتلال بؤرة استيطانية مستفزة مكونة من بيوت جاهزة مسبقة الصنع، مدوا إليها الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وطريق مسفلتة في زمن قياسي، وجعلوها في قمة عالية تتوسط البلدة في جبل صبيح.
هذه البؤرة الكريهة التي منحوها اسم "أفيتار" لا تبتلع عشرين دونمًا فحسب من أراضي بيتا وتيما وقبلان، لكنها عمليًّا تصادر نحو 800 دونم من الجبل والبلدة، وهي أراضٍ خضراء يانعة الثمار يشغل الزيتون الحيز الأعظم منها، وهي بؤرة قاتلة مفجرة لأنها ستمنع مئات الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم الزراعية أو تطول الطريق عليهم وتدفعهم إلى الفرار منها، لا سيما أن هجمات المستوطنين المسلحين المدعومين بسلاح (الجيش الإسرائيلي) وتهديداتهم لن تنقطع عن أهالي البلدة والقرى المجاورة لها، وقد بدأ هؤلاء المستوطنون أمرهم بتصريف مجاريهم القذرة إلى بيوت الفلسطينيين ومحلاتهم في رسالة استفتاحية واضحة.
هذه المستوطنة التي غرزها الاحتلال في قلب بيتا جاءت لتفرض واقعًا جديدًا في المكان الذي كان يخلو من أي حضور استيطاني حتى مايو/أيار من هذا العام 2021، كما أنها جاءت بعد معركة سيف القدس التي أوجعت الاحتلال، وفرضت عليه معادلات جديدة يعمل الاحتلال على كسرها وتجاوُز آثارها، كما أنها تأتي في سياق الرعب الإسرائيلي من عودة الريف الفلسطيني إلى سابق عهده، لا سيما أن تلك الجماعات الأهلية المسلحة التي خرجت منه زمان الصليبيين كانت الرديف الأساس لجيوش الفتح الصلاحي.
كما أن بيتا تختزن ذاكرة مقاتلة كشف عنها حكاية الجندي الأردني المجهول، حين سارع أهل بيتا إلى حماية قبر هذا المقاتل النبيل الذي استُشهد في حرب عام 1967، وواراه الثرى نفرٌ من عائلة الأقطش المجاهدة قبل أن تصل إليه جرافات الاحتلال وتردمه لشق طريق استيطانية، ولا تزال ذاكرة بيتا تتحدث كيف أتى الجيب العسكري الإسرائيلي بهذا الأسير، وقد جعلوه في رأسه كيسًا ثم أعدموه بدم بارد، ودفنه الناس في أرض الصفايح بقريتهم بعد عشرين يومًا من قتله في العراء دون أن يتمكن أحد من الوصول إليه، وهم حزانَى على سقوط القرية وفلسطين كلها بيد الاحتلال.
ولا تزال الذاكرة الفلسطينية تتذكر تلك المشاهد الصادمة مع بدايات الانتفاضة الأولى عام 1988 عندما شاهدت كاميرات العالم جنود الاحتلال وهم يدقون عظام عشرات الشباب الفلسطينيين بالحجارة في تلال بيتا بعد تكبيلهم بالأصفاد في مشهد إرهابي مجنون، والتي أعقبتها أحداث دامية استُشهد على أثرها موسى وعصام بني شمسة وحاتم فايز الجبر في أثناء تصديهم لاجتياح المستوطنين لقريتهم، التي قضى فيها ثلاثة من المستوطنين المهاجِمين أيضًا.
ولا تزال عائلات بيتا تفتخر بشهدائها الذين رووا بدمائهم ثرى فلسطين في ثورة 1936 وما بعدها، ويتحدثون بفخر عن الشهداء الأربعة الأوائل فيها حسن "دروزة" عديلي بني شمسة، وسعيد العبد الرحيم حمايل، وضيف الله عديلي بني شمشة، وعوض السليم دويكات.
ويستذكرون جهاد جميل سليمان جاغوب في معارك 1938 ضد الاحتلال الإنجليزي، وتستدعي حكاياتهم قصص المناضلين البيتاويين في معارك المزار ويافا في أثناء حرب النكبة عام 1948، ومعاركهم ضد العصابات الصهيونية في حرب 1967 في القدس وجبل القرنطل وبيت فجار في الخليل، ثم في حروب بيروت وتل الزعتر والانتفاضة الأولى والثانية.
ولا تزال بيتا تقاتل هذه السياسة الاستيطانية، وقدمت لفلسطين ابنها الشهيد الفتى محمد سعيد حمايل في أثناء تصديه بيديه لآلة القهر الإسرائيلية، وهذا الفتى سليل عائلة مناضلة، فجده محمد عبد الجواد حمايل استُشهد في بيروت عام 1976، واغتيل فيها أيضًا عمه نايف محمد حمايل، واستُشهدت عمته نايفة حمايل عام 1985، وهدم الاحتلال بيت عمه عبد الفتاح عام 1988، كما أن والده مناضل أسير محرر جريح، وغدَا اليومَ والد شهيد، وقبل اغتيال الفتى محمد قتَل جيشُ الاحتلال معلم اللغة العربية زكريا جميل حمايل.
ولا تزال الأحداث تشتعل ضد هذه المستوطنات القاتلة، وما زال الشبان يتقدمون الصفوف، ويذودون بشرفٍ عن أرضهم وتلالهم وزيتونهم وتاريخهم.