تقفُ على أعتاب غزة التي سمعت عنها كثيرًا بعد رحلة استمرت ستة أشهر تحاول العبور إليه، لإسكات نبضات شوقها بعد سنوات من الغياب الآن؛ ستمر من خلال نفقٍ لداخل القطاع المحاصر، وهي التي تخشى العتمة وأن ينغلق أي شيء عليها حتى باب المصعد، لكن صوت أحد المرافقين لزوجها انطلق مذعورًا وقطع تأملها نحو الأسفل وخطواتها المترددة: "يا خالة الطيران ممكن يقصفنا؛ انزلي!" لكنها رفضت وكأنها تنظر إلى بئرٍ عميقة لا ترى نهايته، "طيب عشان أبو مجاهد عده انقصف؟" استطاع المرافق دغدغة مشاعرها فيمن تحب "يقصفوه؟" – "لالا؟" فلم تستعد لطقوس الرحيل بعد وهي التي لم تروِ ظمأ شوقها، "الآن سأنزل" قالتها، وأغمضت عينيها وأخذت نفسًا عميقًا، وابتلعت حبة دواء مهدئ، ووضعت سماعة الهاتف في أذنها تمدها بآيات من "سورة البقرة".
هدأت مخاوفها وهدير دقات قلبها المتسارعة كمحرك طائرة، وافترش الصمت أوتاده، وبواسطة سلك سميك نزلت في عين النفق لكنها عادت لترتجف مثل طائر وقع في حفرة ماء، ثم نزل خلفها زوجها (جمعة الطحلة) والذي أصبح في قيادة الصف الأول للمقاومة في غزة.
" سامحيني، حبيبتي عذبتك، بس لأجل خوفك هدا، والله لأركّع نتنياهو" كلامه لها داخل النفق عطّل حركة صوتها وأفقدها القدرة على الرد حينما توعد المحتل بذلك، واكتفت بتأمل ملامحه وكلامه، هو نفسه عانى قبل دخوله غزة وسُجن في مصر مدة عامين ونصف قبل أن يفرج عنه عام 2011.
أن نختزل حياةَ إنسانٍ طرق الثامنة والخمسين من عمره وأمضى منها ستة وثلاثين عامًا مجاهدًا بين دفتي صحيفة ورقية قد يكون صعبًا، فالحديث عن الشهيد جمعة الطحلة "أبو مجاهد" أردني الجنسية فلسطيني الأصل تمتد جذوره إلى مدينة الرملة قد لا تكفيه مجلدات.
"في بداية حياتي تقدم لخطبتي وكنت فتاة صغيرة لا تعرفُ كثيرًا عن الجهاد تحلم كأي فتاة ببيت وأسرة وحياة مستقرة، لكنه خيرني قبل أن أدخل معه أقرب الطرق إلى الموت: "بتقدري تتحملي معي الطريق!؟"، ورغم عدم معرفتي كثيرًا عن ذلك ومفاجئتي بطلبه، فلم أتردد بالمضي معه: "أخوض معك الجبال والبحار والصحاري"، تقص الخالة مريم شريط حكاية مليئة بالانتظار واللهفة، والشوق واللقاء، والغياب، والبكاء، والحنين كانت فيها سنده وشريكه عبرت معه ليالي الصحاري، وتسلقت الطرق الوعرة في باكستان، وحواجز الموت في سوريا، وأخيرًا تحملت لأجله الخوف بأنفاق غزة وحروبها، وقدمت روحها على راحة يده، كما أعطته قلبها.
عرفته المثالي بالتعامل مع الواقع والأحداث الجارية في العالم، فأي معركة حدثت في زمانه كان يطير إليها، إنسان مرتب منظم لا يوجد لديه فوضى، يخطط لكل شيء، لا يتركُ شيئًا للظروف، يتحكمُ بمحيطه كمغناطيس يجذبُ الأشياء إلى فكره ولا ينجرف معها، استشهد وحزم معه حقائب عدة رص فيها عدة شهادات يحلم بها أي بشر، فلم يرحل بشهادة واحدة، عشت معه حياة التنقل والسفر، يحكم الكتمان قضبته على حياتنا ويكبلها الغموض.
رحلة وتنقل
في منتصف الثمانينات من القرن الماضي بدأت رحلتهم إلى "باكستان" للانضمام لصفوف المقاومة، واستمروا هناك سبع سنوات، تكنسُ غبارَ النسيان عن رفوف ذاكرتها وتفتح تلك الصفحة "أذكر أننا نزلنا في طائرة بمدينة إسلام أباد، وسرنا بحافلة لمدة ثلاث ساعات، كنت متعبة مجهدة أشعر بوحشة لكوني صغيرة، لكن يديه كانت تلتف حولي لتمنحني الاطمئنان ثم توسدت قدمه، وكلما كانت الحافلة تهتز وترتج كان يطوقني بذراعيه".
"ثم عدنا إلى الأردن وعمل فيها فترة، لكن شعلة الثورة ظلت موقدة بداخله مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، يجند المجاهدين فيها، ثم سافرنا إلى الإمارات بعقد عمل فهو متخصص في الهندسة المدنية، ذو العقل المميز البارع بالرياضيات والكيمياء ولهذا اختارته المقاومة في التصنيع، وبقينا هناك سنوات لتحسين ظروفنا المادية واشترينا بيتًا مميزًا بمنطقة راقية وافتتح شركة "مقاولات"، وتغيرت حياتنا".
في وقتٍ اعتقدتُ أنها سنهنأ بين جدران أجمل البيوت، وأنها لن تعبر صحاري وجبالًا، ليأخذ استراحة محاربٍ، كان قلب أبو مجاهد يرنو نحو "سوريا" عام 2005 يريد نفض هذه المغريات عنه لكنه لم يصطحب العائلة بعدما استدعي: "ذهبَ بمفرده للعمل بقسم التصنيع والتطوير وهو تابع للمقاومة الفلسطينية في غزة، نظرًا لصعوبة الوضع الأمني فيها بأن يأخذنا معه، وهو يلقي نظرات المغادرة، أدركتُ أنه لن يعود، وأنه حتمًا سيستشهد هناك وكأنَّ نار الفراق وصلت إلى الحبال التي تربطنا وأحرقتها".
عاشت غربة في الإمارات كانت الأب والأم لأولادها، تعرضت لمواقف هزتها، الوجع الذي شعرت به يتحول لكلمات تتحرك هنا: "دهست ابنتي، أجهضت ولم أجد أحدًا بجواري ونزفت وأغمي عليّ وكنت بين الحياة والموت، ثم كنت أقارن حياتنا المرفهة في الإمارات وحياته الصعبة بمدينة "دوما" بسوريا أتساءل من أين له هذا الإيمان والهدف الكبير رغم أني كنت أشد على يده، في ذات الوقت تجتاحني مشاعر الرحيل في كل مرة".
تحط أحبالها الصوتية هناك، بعدما قفز أمامها مشهدٌ من زيارتها الوحيدة لسوريا له: "حملني شوقي إليه، بعد سنوات من الغياب، كنت خائفة جدًا لما نزلت مدينة "دوما" وكأنها فيلم رعب، رأيت زقاقًا، وبيوتًا مرعبة، ومناطقًا وأحياء لم أرها في حياتي، قادمة إليه من حياتنا المرفهة في الإمارات، وأمام بكائي الشديد حجز لي في فندق وقدم لي هدية جميلة".
في غمرة اليأس، وأحيانًا الشوق الذي كان يمزق عباءة الانتظار بقلبها، كان يفاجئها بإنجازاته وتطور الصواريخ التي يصنعها للمجاهدين، لا تزال تذكر كلماته "وعد حضربلك حيفا و(تل أبيب) وتطير الصواريخ قوية بالسما".
تزورها صورته وهو يقف بين يدي الله يطلب "الشهادة بعد نصر وإثخان بالأعداء" كان يرى النصر قريبًا، وهي تراه بعيدًا، بسبب تخاذل الأنظمة العربية، حتى "أن في السنوات الخمس الأخيرة التي لم أستطع فيها الذهاب إليه إلى غزة فكان صعبًا أن نعيش في بلد والأولاد في بلد آخر، لم يثنه ذلك عن مهمته، رغم أنه شديد التعلق بي فيحبني كثيرًا، ويحب ابنته، وحفيدته".
هناك في غزة، استلم مناصب عسكرية كبيرة وأصبح من قادة الصف الأول وله بصمة في "تطوير الطائرات والصواريخ وتصنيع العتاد"، كانت حسرته الوحيدة أنه محروم من عائلته وكان وحيدًا غريبًا مجاهدًا ومرابطًا صائمًا قائمًا، اجتمعت فيه كل هذه الخصال.
مسافات بعيدة
كان صوتها صلبًا قويًّا على طرف سماعة الهاتف الأخرى لكنه يشبه البكاء "أضعفتني بعد المسافات عنه، لكني وجدته بنفس الهمة، لدرجة أني شبهته بسيدنا إبراهيم الذي ذبح حبه لابنه حينما أخذ الله خاصية الذبح من السكين، أما هو فذبح حبه لي ولابنته التي كان يقول لها: "أنت الرئة اللي بتنفسها"، وظل صابرًا على كل شيء تركه، حتى نال الشهادة".
- من للأمة الغرقى إذا كنا الغريقينا؟
- ومن للغاية الكبرى إذا صغرت أمانينا
كان صوت الأنشودة ينبعث من هاتفه بنرجسية تامة في ملامحه وهو على الطرف الآخر من الوطن والضفة الأخرى من قلبها حينما أرسل لها مقطعًا مرئيًّا ليبرد شوقها له، وكان يستمع لتلك الأنشودة.
بينما كانت تمسك هاتفها المحمول ذات يوم، هبطت كلمات رسالته داخل قلبها "أبلغ عزيزًا، في ثنايا القلب منزلهُ أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه، وإن طرفي موصول برؤيته وإن تباعد عن سكناي سكناه، ياليته يعلم أني لستُ أذكرهُ، وكيف أذكره إذا لستُ أنساه".
قدر لها أن تعيش حربين في غزة عامي (2008- 2014) بعدما قدمت لغزة من خلال نفق، في الأولى كان القصف قريبًا من بيتهم، يدق صوته أبواب ذاكرتها: "أيقظني يطلب مني تجهيز نفسي لإخلاء المنزل، فسألته: ليش بدك تروح، عشاني؟" أعترف: "صحيح، عشانك"، لكني رفضت طلبه: أجلنا مكتوب فلن ينقص أو يزيد، وأمام رفضي بقينا بالبيت".
لكن في الحرب الثانية، عشتُ على وقع الصواريخ لكنها لم تكن قريبة هذه المرة، بل تساقطت فوق منزلها أربعة صواريخ لطائرات إسرائيلية بدون طيار، فخرجت مع ابنتها وزوجة ابنها، تحت وقع نبضات قلبها المرتجفة خوفًا عليهم، اعتقدت أنها لحظة الرحيل والوداع وحزمت حقائب الوداع بداخلها وأنها ستسبق زوجها إلى السماء، قبل أن يقصف البيت وكانوا قد ابتعدوا ركضًا، قال لها بعد أن التقيته: "بقيت ساعات أمضيتها ساجدًا بين يدي الله".
حينما وضعت الحرب أوزارها، وانقشع غبارها، وعاد إلى البيت بعد 51 يومًا، أخذت حذاءه بدون علمه، ومسحت به جبينها، فكان بالنسبة لها "تراب الجنة".
كان همه كرامة الأمة ونصرها وعزتها، لم يحفظ سورة "الأنفال" فقط بل طبقها في حياته، ترعرع حب فلسطين في قلبه ونما كما تنمو الوردة في البستان، "أنا بقوم بدور الأمة كلها، بدي الناس تروح مطمئنين على البحر"، تلتصق كلماته بذاكرتها وكذلك مشهد آلاف المصطافين على شاطئ بحر غزة حينما قدمت إليه وعاشت معه عدة سنوات حياة تشرد بغزة هربًا من أعين الاحتلال، فعاتبته وهي تنظر للمشهد المكتظ: "شوف الناس كيف مرتاحين.. مبسوطين، وكيف احنا مشردين معذبين!؟، فهمس وقد قفزت منه ابتسامة هادئة مقدرًا كلامها: "خليهم مبسوطين، احنا بنكون حمينا ضهرهم وبنأمن الهم الوطن اللي بحتضنهم".
أتدرون؟ "في البيت يستحيل أن يؤجل شيئًا للغد وهذا ما تتمناه النساء في الرجل، في باكستان كانت الكهرباء تقطع في كل المنطقة إلا بيتي، استطاع إيصال كهرباء بديلة إليها، كان تكتمي على عمله الجهادي في الوسط العائلي يشكل عبئًا كبيرًا حينما يسألوني في المناسبات الاجتماعية، "أين زوجك؟".
يطرق صوته القادم من بعيد أبواب ذاكرتها حينما سألته ممازحة إياه: لما تحرر فلسطين كيف بدك تقعد فاضي؟
- بروح بحرر الأندلس
- ما دخلني ساعتها، روح لحالك.
تشعر بالحزن الذي يضرب قلبها: "كان رومانسيًّا جدًا، لم تمر ذكرى ميلادي أو زواجنا، إلا وجاء وهو يحمل زجاجة عطر وأجمل الهدايا، يخبئها وراء ظهره ويفاجئني بها، أما إن كان بعيدًا فكان يرسلها لي".
لم ترَ في حياتها أناسًا يتقنون الحياة بالدنيا والموت معًا، بهذه الطريقة، فقد أبهرها، حينما رأته محمولًا شهيدًا على أكتاف الشباب يتهدهد جثمانه فوق النعش يوم (12 مايو/أيار 2021) وبينما كانت تراه استوقفتها الحياة التي عاشتها معه فقد أمضت ثلاثين عامًا رافقته فيها على "الحلوة والمرة" وخمس سنوات بعيدة عنه، أبهرها بإنجازه وعبقريته، وثباته على الحق، وعلى مبادئه، وصدقه، وأمانته، وصبره، وشجاعته، حتى مثاليته كانت تستفزها" يا راجل خد حقك من الناس"، لكنه أبى وهو القادر على ذلك، ليرحل ويأخذ معه كل الشهادات، حتى أنه كان يفكر فيما بعد الموت، تزورها كلماته "راح أمنلك الآخرة لأني راح أشفعلك".
رحل الشهيد جمعة الطحلة، وها هي زوجته "مريم" تروي قصة إنسان أمضى حياته متنقلًا في الجهاد من باكستان وأفغانستان لأقسام التصنيع في سوريا ثم ختم فصلها الأخير في غزة، التي احتضنته بعد قصف إسرائيلي له ومجموعة من قادة كتائب القسام.