يبدو أن هرم الأولويات الفلسطينية أخذ ينقلب على رأسه، بقوة دفع المعركة أخيرا، وأن سلم الأولويات الوطنية دخل في طور التبدّل الحثيث، في هذه المرحلة التي تلت هبّة القدس والعدوان الوحشي على غزّة، حيث شرعت حركة حماس، الممتلئة بمشاعر الغلبة، والحسّ برجحان كفة الميزان الداخلي، جرّاء انتصارها المعنوي الباهر، تُقدّم مسألة إعادة بناء منظمة التحرير على أي مسألةٍ أخرى مدرجةٍ على جدول الأعمال الراهن، بما في ذلك إعادة إعمار قطاع غزّة المدمّر.
وأحسب أن حماس المنتشية بإنجازها أخيرا، وهي نشوة لها ما يبرّرها، قد وجدت أن سبيل الخروج من عزلتها المديدة في القطاع المحاصر، وبسط يدها على الضفة الغربية، بات مستحقّا وممكنًا، بفعل سوء أداء خصمها السياسي في أثناء المعركة، وبزخم موجة تأييد شعبي عارمة، مكّنت الحركة الإسلامية من مدّ ساقيها بعد قرفصة طويلة، وأخذ زمام المبادرة، في لحظةٍ مواتية، لتغيير التوازنات السياسية داخل البيت الفلسطيني.
عثرت حماس على ضالّتها المنشودة لنيل حصتها العادلة من المؤسّسة الشرعية، وتكريس نفسها قطبًا معترفًا به عبر آلية منظمة التحرير، الممثلً الشرعي الوحيد، والمرجعية السياسية الجامعة التي نالت، سابقًا، تعظيم سلام كبير، واستقرّت عميقًا في الوجدان العام، فيما لم تنشغل الحركة المجاهدة كثيرًا بمبنى السلطة الوطنية التي تم رجمها بكل التهم اللاذعة، وجرى تشخيصها نبتا شيطانيا لاتفاق أوسلو المأكول المذموم.
غير أن حركة حماس التي لم تعترف بمنظمة التحرير حتى الأمس القريب، وهجتها قيامًا قعودًا طول الخط، جاءت متأخرة كثيرا إلى الحفل، ومستعجلةً، في الوقت ذاته، لقطف ثمرة تحسب أنها شهية، أتت مسكونةً بنوستالجيا فلسطينية طاغية تجاه الممثل الشرعي الوحيد، أي بذهنيةٍ قوامها آلية دفع ذاتي يستعيد بها العقل، الفردي والجماعي، ذكرياتٍ حميمة من الماضي السعيد، لتحسّن المزاج، ورفع الروح المعنوية، والتغلب على مصاعب الحياة واستعصاءاتها، خصوصا للطاعنين في السن. ذلك أن منظمة التحرير التي نالت درجة من القداسة والولاء لدى الفلسطينيين ليست الآن تلك المنظمة التي كانت، ذات يوم في زمن حركات التحرّر العالمي، وعصر الشرعيات الثورية، كيانا تمثيليا لا يُجارى، وبيتا سياسيا حصريا لتحالف جبهوي ناجع وفعّال، فيما باتت اليوم مجرّد احتياط سياسي، أو ملجأ أخير، جرى الاحتفاظ به بديلا جاهزا إذا ما أخفق خيار السلطة الوطنية التي حلت، في واقع الأمر، محل الهيكل القديم، وحازت أوسع اعتراف دولي، عندما أجرت أول انتخابات فلسطينية، استبدلت الشرعية الثورية بالشرعية الدستورية.
ومع الاحترام للعواطف الجيَّاشة، لم تعد منظمة التحرير، ذات الإرث الكفاحي المجيد، سوى مكتب إداري وجهاز بيروقراطي، صالون سياسي لعقد المناظرات وإلقاء الخطابات في مؤتمراتٍ تعقد في أحيان متباعدة، وآلت أمًّا تأخذ مصروفها من بنتها (السلطة)، فيما دوائرها السياسية والعسكرية ومنظماتها الشعبية صارت يافطاتٍ بلا مضمون، والجيش الوحيد الذي يحمل اسمها، ولم يعد مع العائدين، يقاتل تحت إمرة بشار الأسد ضد السوريين. أما السلطة الوطنية فهي الكيان القائم على أول أرض فلسطينية متاحة، بين ناسه، في دار أمه وأبيه، كيان غير قابل للامحاء أو الترحيل برًّا وبحرًا، على غرار ما جرى ذات نهار.
كان مقدّرًا لمسار السلطة الفلسطينية أن يأخذ مسار جبهة التحرير الجزائرية بعد استقلال بلد المليون شهيد، وأن يتنكب درب الفيتكونغ الفيتنامية غداة طرد الأميركيين، وأن يؤول إلى ما آلت إليه حركات تحرير مماثلة في العالم الثالث، أحزابًا سياسية عاملة في إطارات النظم الناشئة. وهنا يخطر في البال سؤال عن مصير المنظمة الصهيونية العالمية بعد قيام (إسرائيل)، أين أصبحت اليوم؟ وما دور الوكالة اليهودية، وما هو وزنها في الحياة السياسية الإسرائيلية الآن؟
مثل هذه الرهانات على مستقبل السلطة أخفقت، لأسبابٍ يطول شرحها، أهمها تكالب الخصوم والأعداء على التجربة، ولا سيَّما رفض (إسرائيل) تنفيذ التزاماتها، وتشديد هجماتها المنهجية على أول كيان فلسطيني في التاريخ الحديث، الأمر الذي أعاق انتقال السلطة من طور الحكم الانتقالي إلى مصاف دولة مستقلة، إلا أن ذلك كله لم يقوّض التجربة التي ظلت تستمد حياتها من دعم شعبي معتبر، إسناد دبلوماسي واعتراف واسع، وتمويل مكّنها من الاستمرار في إدارة شؤون حياة نحو خمسة ملايين إنسان، ومواصلة معركة سياسية ضارية ضد الاحتلال.