وضع المواطن "كمال أبو كويك" يده على أنفه وأحكم قبضته عليه، محاولاً عزله تمامًا عن الرائحة المنبعثة من مياه الصرف الصحي التي تجري من أمام بيتهم كفيضان نهرٍ ينبع من أحد خطوط الصرف الصحي التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه الأخير على قطاع غزة في مايو/ أيار الماضي.
نادى أبو كويك على أطفاله وعائلته: "يلا بسرعة بدنا نطلع"، مطالبا إياهم بالصعود للسيارة حالاً. مشهدٌ أعاده لذكريات العدوان حينما خرجت العائلة من المنزل بسبب قصف الاحتلال "الجنوني" لمفرق الجامعات بمدينة غزة المجاور لبيتهم، لكن هذه المرة ما زالت آثار العدوان جاثمة على المنطقة بعد أن غيرت معالمها ودمرت شبكات الصرف الصحي وخطوط مياه الأمطار، وأوجدت كارثة إنسانية في قطاع غزة تنذر بـ "صيفٍ ساخن".
لم يستطع كمال وعائلته، الذين عادوا قبل يومين إلى منزلهم بعدما غادروه منذ العدوان تحمل الرائحة الكريهة المنبعثة من أحد المصارف المحيطة، ما جعل "الحياة لا تطاق" بالنسبة لهم: "مش قادر أدخل البيت من الريحة، حتى أولادي زي ما أنت شايف أخذتهم معي وبنيجي بالليل على أمل يتصلح الخط" قال تلك الجملة ودخل إلى سيارته وغادر المنطقة بسرعة.
"مسكرين الباب على حالنا، تعبانين كتير" تحاصر الدموع حواف عيني المسنة أم كمال حرز الله وهي تجلس على كرسي متحرك في ساحة منزلها بذات المنطقة، فهي تعيش منذ أسبوعين هي وعائلتها واقعًا مريرًا، وكارثةً إنسانية، فلم تقتصر المعاناة هنا على الدمار الذي لحق بأجزاء واسعة من الجهة الغربية من المنزل وتضرر الأثاث، بل تدفقت المياه إلى منزلهم المنخفض بشكل كبير وحولته إلى بركة مياه من الصرف الصحي.
تحيط بالحاجة "أم كمال" قوارير زراعية مليئة بألوان زاهية، بعضها يحيط بالحديقة المنزلية الصغيرة وبعضها معلق على أحبال، مشكّلة لوحة جمالية خضراء تتفتح فيها الورود، لكن هذه اللوحة تشوهت بفعل اجتياح مياه الصرف الصحي للمنزل، تأذن لشفتيها الراجفتين بالبوح بمعاناتها آثار أزمتها الصدرية تقطع صوتها: "ليل نهار بتدخل علينا" قطعته مرة أخرى ثم أكملت: "الشارع كله بطف علينا".
مشهد دخول المياه العادمة لمنزلهم يتحرك أمام عيني أم علاء حرز الله التي تقف بجوارها: "ما لقينا إلا المجاري بتطف على الدار، احترنا شو نعمل، وصرنا نحط حرامات عشان ما تدخل جوا الدار".
اضطر أهل البيت إلى تحمل الرائحة أو الغوص فيها، لقشطها بعيدًا ومنعها من التسلل داخل الغرف، حتى إن استطاعوا إخراجها فإن الرائحة تصلهم إلى داخل الغرف، حتى أنك لا تستطيع تحمل المرور بجانب تلك الروائح.
حلول عاجلة
على مفرق "الجامعات" بالقرب من الجامعة الإسلامية، يقوم العمال بتركيب خط بديل لحل مشكلة تداخل خطوط الصرف الصحي والأمطار والمياه، بعد تدمير خط التصريف الرئيس، في حين تعبِّد الجرافات الطريق وتطمر الحفر، انتهى العمال من حفر حفرة بعمق خمسة أمتار غرست فيها غرفة حماية للعامل الذي سيقوم بوصل الخط بهذه المنطقة.
هناك تتساقط قطرات العرق من المهندس محمد عابد، وهو يتابع إتمام المهمة ويسابق الزمن فيها، عابد الذي يمسك رزمة أوراق ويرتدي سترة برتقالية وقبعة بلاستيكية مقوسة يدخلنا في أجواء المشروع "نعمل حاليا على تصليح الخط المقصوف وهذا الخط طوله 160 مترًا، بعمق 4 أمتار ونصف المتر، بعدما طال القصف الإسرائيلي البنية التحية من مياه صرف صحي وأمطار، وخطوط المياه".
الخط كما تحدث عابد لصحيفة "فلسطين" سبب أزمة صحية للسكان بالمنطقة من مفترق الجامعات وحتى شارع المغربي باتجاه الشرق، بسبب عدم وجود تصريف، ما يؤدي لتجمع المياه داخل المناهل وطفحها على الشارع أو تجاه بيوت المواطنين.
المحطة رقم (1)
غرب مدينة غزة، طال الدمار والقصف المحطة رقم (1) لمعالجة المياه العادمة، بجولتك في المحطة المدمرة ترى دمارًا كبيرا في المحطة، أمامك المولدات الكهربائية التي تدمرت وتعطلت لوحاتها الكهربائية، تلحظ الانفصال الكبير لأنابيب خط الضغط الرئيس بسبب القصف، بلاط الأرضيات متشقق، أعمدة الكهرباء سقطت، الأسوار والأبواب تحطمت كأنها أصبحت رأسا على عقب.
رئيس قسم المحطات بالبلدية وائل الوحيدي الذي رافقنا بجولة لرؤية حجم الدمار الذي طال المحطة يلخص المشكلة: "المحطة تدمرت نتيجة القصف، وضرب خط الضغط الرئيس فيها ما أدى لتوقف المضخات، والآن المولدات الكهربائية غير قابلة للصيانة".
المحطة التي كانت تستقبل المياه العادمة من الشبكات الخارجية وتقوم بترحيلها لمحطة المعالجة المركزية توقفت، وبدأت منذ العدوان بترحيل المياه العادمة غير المعالجة لشاطئ بحر غزة، نتيجة عدم قدرته على اصلاح الخط "المتعطل" دون وجود تمويل.
هذه الأزمة أدت بحسب المدير العام لحماية البيئة في سلطة المياه وجودة البيئة بهاء الأغا، إلى تلوث 85% من طول شاطئ قطاع غزة، ونحو 90% من شاطئ مدينة غزة التي باتت تلوث بشكل شبه كامل، وهذه الأزمة قد تطول بمدينة غزة ويحرم الناس من متنفسهم الوحيد، في حين قد تتحسن الأزمة في المناطق الأخرى.
ويقول الأغا لصحيفة "فلسطين" إن" ضخ المياه العادمة غير المعالجة للبحر، يؤدي لحرمان مليوني إنسان من متنفسهم الوحيد، خاصة مع بدء الإجازة الصيفية، فضلا عن الإصابة بالعديد من الأمراض والحساسيات الجلدية وأمراض الجهاز الهضمي وحساسية العيون والتهابات الأذن، وإن كانت غير مميتة"، مشيرا إلى أن استهداف شبكات المياه والصرف الصحي أدى لإنقاص حصة الناس من إمدادات المياه بنسبة 30%.
ولفت إلى أن معظم الخطوط الرئيسة لمياه الصرف الصحي والشرب والمياه المنزلية تم إصلاحها من البلديات والمشغلين للشبكات لكن هناك مرافق وخطوط تحتاج لإدخال معدات من الخارج وشراء معدات ثقيلة لإصلاحها، مطمئنا المواطنين بأن المياه المنزلية التي يتزود بها المواطنون تصلهم معقمة بمادة "الكلور" وصالحة للاستخدام رغم الدمار الكبير.
على شاطئ البحر بمنطقة الشاليهات، تتدفق المياه العادمة من مصب المحطة رقم (1) إلى البحر بشكل كبير وكأنك تسير على حافتي نهر بمجرى يبلغ عرضه نحو 3 أمتار.
البنية التحتية
المهندس محمد الإمام وهو مدير دائرة الصرف الصحي ببلدية غزة والذي رافقنا بالجولة للمصب، يستعرض المشكلة لصحيفة "فلسطين": "المياه التي تصل للمحطة تتدفق بشكل كبير دون معالجة للبحر وتقدر الكميات بحدود 14 ألف كوب يوميا، لذا نأمل الإسراع من الممول بعملية جلب التمويل ليتمكن أهالي القطاع من التمتع بالصيف".
بحسب الإمام فإن 20 كيلومترا من خطوط الصرف الصحي تضررت بشكل مباشر، ونحو 5 كيلومترات من خطوط مياه الأمطار تدمرت، وقرابة 10 كيلومترات من شبكة المياه، أجرت البلدية صيانة مؤقتة للمناطق الرئيسة كمحيط منطقة السرايا والجامعة الإسلامية وبالقرب من مدرسة "الراهبات الوردية" وشارع بغداد بحي الشجاعية، ومنطقة شارع المخابرات.
ولفت إلى أن منطقة شارع الوحدة بها شبكات "أسبست" وهي شبكة قديمة عمرها يزيد على 30 عاما، وبسبب الاستهداف تكسرت الشبكة وقد تظهر انهيارات ومشكلات مستقبلية فيها غير مرئية حاليا، مبينا أن عدوان الاحتلال وقصف الطرقات أثرا في خدمات البلدية، والبنية التحتية من الأسفلت، وأديا لتدمير جميع خطوط الصرف الصحي بشكل أساسي، ما أدى لطفح المياه لمنازل الناس والطرقات.
وحذر من أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيجعلنا نواجه "صيفا مؤلما ومكاره صحية بالشوارع"، بالإضافة إلى نقل فيروس كورونا، وانتشار البعوض والروائح الكريهة.
وعن حلول البلدية للمناطق التي تتعرض للطفح، أوضح أنا البلدية تقوم بشفط المياه من المنازل التي تتعرض للطفح، مثل المناطق الشرقية لغزة تحديدا بشارع "فتوح" ومنطقة الثلاثيني.
لكن هناك مشكلة أخرى وكارثة قادمة تتعلق بشبكة مياه الأمطار، وهذا ما يستلزم تدخلا مباشرا قبل دخول موسم الأمطار، وإلا فغزة معرضة لمواجهة موسم أمطار "سيئ".
السيناريو المرجح حدوثه حسب الإمام، في حال لم يتم تمويل مشاريع إصلاحها، دخول مياه الأمطار إلى المنازل، وحدوث فيضانات بمناطق منخفضة بالمدينة، لعدم وجود تصريف لمياه الأمطار في الخطوط المدمرة، وأهم هذه المناطق المعرضة لهذا الخطر: شارع الوحدة، وشارع الثورة، ومنطقة مدينة "عرفات للشرطة" وشارع يافا بمنطقة التفاح، وشارع صلاح الدين "الأمن العام".