بتاريخ 20/02/2021 أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مرسوم الحريات العامة، الذي أكد ضرورة تعزيزها واحترامها، وأهمها حرية العمل السياسي الوطني، مع تأكيد "حظر الملاحقة والاحتجاز والتوقيف والاعتقال لأسباب تتعلق بحرية الرأي والانتماء السياسي".
تباينت ردود الأفعال حينها على المرسوم، ما بين مرحب دون تحفظات، ومستهجن فكرة كون الحريات محتاجةً مرسوماً لإقرارها، ومتخوّف من بقاء المرسوم حبراً على ورق، كونه صدر في ظرف التحضير للانتخابات التشريعية، مع إمكانية التنكر له بعد إجرائها أو إلغائها، وهو ما كان.
والحال أن تجربتنا مع هذه السلطة وأجهزتها الأمنية تقول بوضوح إنها سلطة الانقلابات بلا منازع، إنْ على نتائج الانتخابات التي لا تعجبها، أو على كل ما تتعهد به وتوقعه من تعهدات ومواثيق شرف، وآخرها ذاك الذي وقعت عليه الفصائل الفلسطينية جمعاء في آخر حوار موسّع لها في القاهرة، منتصفَ آذار، من العام الجاري.
فور توقف معركة سيف القدس على جبهة غزة شرعت أجهزة السلطة الأمنية في الضفة الغربية بتنفيذ حملة اعتقالات واستدعاءات، طالت في معظمها عدداً من الناشطين الذين كان لهم دور في تحريك الميدان، وآخرين بسبب منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي، فيها انتقاد صريح لمحمود عباس، لكنّها –أي الأجهزة- مهّدت للحملة بالترويج لفرية إطلاق هتافات تهاجم الراحل ياسر عرفات في إحدى المسيرات في رام الله، وهي الفرية التي ثبت بطلانها وبراءة من اتهموا بها منها، فيما ظهر لاحقاً أن أول من نشرها كانت صفحة صهيونية ناطقة بالعربية.
تعلم السلطة وأجهزتها أن هذه الحملة تستجلب غضب الناس وسخطهم عليها، لكنها تجدها فرصة لتأكيد هيبتها واستمرار تسلّطها على معارضيها، حتى لو تطلب الأمر أن تركل مرسوم الحريات إلى أبعد مدى، وتمارس عكس ما ورد فيه، مؤكدةً أيضاً أن الكلمة في الضفة هي للحرْبة والقيد والسجان، وليس لتعهدات السياسيين في حواراتهم وتوافقاتهم مع بقية الفصائل.
تظهر أجهزة السلطة ضيقاً مبالغاً فيه تجاه أي صوت ينتقد محمود عباس أو يهاجم سياساته، وهي تملك من ترف الوقت والجهد والاهتمام ما يكفي لتتابع حسابات عامة الناس على مواقع التواصل، ولا يتورّع مخبروها عن الاتصال ببعضهم مطالبين إياهم بحذف منشورات معينة، ليجنّبوا أنفسهم الاعتقال والمساءلة!
لا يقول لنا أحد من ممثلي السلطة ما هو شكل وجوهر القانون الذي يستندون إليه في انتهاكاتهم هذه، ولا المبرر الدافع لاعتقال شخص أو تهديده لمجرد انتقاده محمود عباس، لكننا نعي جيداً أن هذه السياسات المفلسة تبدو في جانب منها تنفيساً للغضب من هتافات المقدسيين خلال معركة سيف القدس وبعدها، والتي كانت فيها إدانة واضحة للسلطة ورموزها، بسبب مواقفهم المتخاذلة.
وفي كل الأحوال، الأصل ألا تكون هذه الانتهاكات مقبولة مهما كانت طفيفة، وحتى لو كان عدد ضحاياها قليلا، فالعبرة ليست بعدد المعتقلين على خلفية نشاطهم الميداني الوطني أو آرائهم المناهضة للسلطة، بل بمبدأ العودة لسياسة العربدة والاستقواء هذه، وخصوصاً الآن، وبعد أن خطّت جولة المقاومة الأخيرة معادلة جديدة، أو هكذا يجب أن يكون.
مسؤولية كل الفصائل الوطنية اليوم أن تجابه هذه السياسة، وأن تدين هذه الانتهاكات وتعمل على وقفها، حتى لو اضطرت للتحلل من اعتبارات المجاملة والعلاقات العامة، التي لا تجدي مع من لا يحترم عهوده، ومسؤولية وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، أن تقوم بما عليها كذلك في هذا الإطار، فالإدانات الخجولة لا تكفي لوقف هذه المهزلة، وإلزام السلطة بالكف عنها.
ختاما، فإن تعزيز حضور واحترام الرموز البشرية في وعي الناس لا يكون بالإكراه والإجبار، هذه سياسة المفلس والضعيف، بل إن الطريق لاستجلاب المحبة والتقدير معروف، وخاصة في حالتنا الفلسطينية، وهو أن تظهر هذه الرموز من سلوكها وسياساتها ما يدفع الناس لاحترامها ومحبتها طوعا، وبتلقائية وإرادة حرة، أما سياسات القهر والإجبار فلن تخلّف إلا بغضاً متنامياً وغضباً ممتدا.