في مقالنا الأخير من عملية تقييم معركة سيف القدس وتداعياتها ونتائجها، الذي يحمل الرقم عشرين نقول: تعتمد المعارك في أيامنا هذه على المعلومات الاستخبارية، والعملاء، وعمليات الخداع، أكثر مما تعتمد على الطائرات والدبابات والمدفعية، فهذه الآليات تعدّ عمياء دون معلومات استخبارية، وقد اجتهد العدو وأنفق ملايين الدولارات على اختراق غزة والمقاومة، وكاد أن ينجح من خلال خلية الزوايدة، ثم من خلال خلية الشرقية في عبسان، ولكن العمليتان فشلتا بفضل الله وحسن عمل المقاومة وحدسها.
إذا كانت غزة المحاصرة والضعيفة بقدراتها وتقنيتها تمكنت من اختراق العدو، وكشفت بعض معلوماته السرية، وكشفت عملاءه، وقلعت عيونه، وزودته بمعلومات مضللة، فمن البديهي أن يكون العدو وهو الأكثر قدرة استخبارية، ولديه التقنية المتقدمة، وطائرات جمع المعلومات لا تكاد تفارق سماء غزة في ليل أو نهار.
في ظل هذه الحالة المكشوفة أو شبه المكشوفة، شقّت غزة طريقا لمقاومة ذات مغزى، آلمت العدو وأسقطت هيبة حكومته وجيشه. وحين حققت غزة هذه المعاني والإنجازات كان الثمن والضريبة التي يجب أن تدفعها، وقد دفعتها حيث لا يوجد طريق آخر يمكن أن يوقف تغول الاحتلال على القدس والأقصى غير هذا الطريق.
غزة أخذت بأقصى درجة ممكنة من السرية والكتمان في العمل، ولكن المنصف يعلم أن المقاومة تعمل في بيئة جغرافية محدودة المساحة، سهلية لا تضاريس معقدة فيها، وتعمل على تصنيع صواريخ بطول مترين وأربعة أمتار وخلاف ذلك، وهي يجب أن تضعها في أماكن سرية بعيدة عن القصف، في حين يجهل أحدنا آلية إخفاء ما يملك من فلوس أو ذهب.
لقد حققت المقاومة في غزة قدرا جيدا من السرية، وهو قدر يجدر تقديره في ضوء طبيعة غزة وجغرافية غزة، المزدحمة بالسكان، حيث يكاد الساكن يعرف جميع السكان، ويعرف عمل كل من حوله من الشباب، وحيث كل شيء اليوم على الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي، بداية من عمل كيكة في المطبخ للعيال وانتهاء بالثرثرة عن المقاومة والقدرات والقيادات.
غزة قاتلت بالقوة الذاتية، وقاتلت بالضعف الذاتي، (الجغرافي والسكاني)، وقاتلت بالكتمان والسرية، وقاتلت وحدها بلا ظهير حقيقي، ونجحت في قتالها نجاحا مقبولا، ولم يحقق عدونا أهدافه، بل انكشفت عوراته التي تناولنا بيانها في مقالات التقييم السابقة.
غزة قاتلت بالكتمان كما قاتلت بما هو معلن أو قريب من الجمهور، وما لا يمكن إخفاؤه، وكان سكان غزة هم غطاء المقاومة بل وغطاء الوطن لكل مكشوف ومعلن. إنه رغم جبروت الاستخبارات الصهيونية، التي دخلت قصور حكام عرب وغير عرب، ورغم أن ممثل (إسرائيل) حضر لسنوات اجتماعات مجلس الجامعة العربية، رغم هذا فقد ظلت أجزاء مهمة خفية عن العدو واستخباراته، وهذا يرجع إلى أن الأمن والمقاومة استطاعت تنظيف غزة بشكل جيد من العملاء ومن التخابر على مدى سنوات طويلة، ومع ذلك فعلى غزة أن تعيد تقييم خسائرها ومدى علاقتها بالتخابر، ومدى علاقتها بالحزام الناري ومترو الأنفاق كما سماه العدو. غزة في حاجة لتشكيل لجان تقييم مستقلة ذات مغزى.